بناها أبناء "السودا" حجراً حجراً؛ حيث اصطف رجال بخط طويل يحملون حجارة مشذبة منقولة من أماكن بعيدة، لبناء جدران عالية وأعمدة مرتفعة، فكانت كنيسة "السيدة" التي تجاوز عمرها مئة وثلاثين عاماً، لتكون اليوم المعلم الأثري الذي يقصده آلاف الزوار.

مدونة وطن "eSyria" التقت الأب "خليل الشيخ" الذي تجاوزت أعماله في خدمة الكنيسة أكثر من ستين سنة، بتاريخ 21 كانون الأول 2018، ليحدثنا عن تاريخ الكنيسة قائلاً: «عثر الوافدون إلى بلدة "السودا" على هيكل قديم في غابة من السنديان، كشفوا الجهة الغربية ليظهر هيكلاً صغيراً يتسع لكاهن، وهو على شكل نصف دائرة وجدرانه من الحجر والطين، ويرجح العارفون والأثريون أن الهيكل يعود إلى القرن الثالث الميلادي. وقد عثر في الهيكل على أيقونات قديمة مكشوفة تعود إلى القرن السابع عشر الميلادي، وظهرت عليها عوامل الطبيعة ولمسات الأصابع، فأزيلت الكثير من معالمها وألوانها.

من الحوادث التي ما زالت في الذاكرة وتتناقلها الألسن، أنه عندما كان سطح البناء يشيد كان الماء ينقل بواسطة جرار من الفخار إلى السطح المرتفع، وفي إحدى المرات سقطت جرتين من أعلى السطح، لكن لم يصبهما أي كسر، فتعجب الجميع حينئذٍ، وكانت من الحوادث الجميلة

بقي أهل "السودا" يصلّون في هيكلهم القديم حتى نهاية القرن التاسع عشر، ففي عام 1880 قرروا بناء كنيسة كبيرة تتسع لأعدادهم المتزايدة، واختلفت الآراء وتعددت حول المكان المناسب، فاستقر الرأي على المكان المختار، حيث كانت السيدة "العذراء" تظهر في تلك الغابة المجاورة للهيكل القديم، يلفها النور الذي يضيء ظلام الليل مدة الظهور؛ لذلك حملت الكنيسة هذا الاسم».

طريقة نقل الحجارة لبناء الكنيسة

وتابع الأب "خليل" حديثه عن بداية العمل في البناء قائلاً: «في عام 1882 بدأت أعمال البناء، التي شارك الجميع فيها، حيث كانوا يقدمون الحجارة والطين، وكانت أصوات ذلك الناقوس المعلق كإعلان عن بدء ساعة العمل، وقد نقل عن شاهد عيان قوله إن حجارة الردم أحضروها من الخرائب المجاورة لـ"السودا" بطريقة فريدة من نوعها، فقد اصطف أهل البلدة واحداً بجوار الآخر؛ وبصفوف طويلة من مجمّع الحجارة إلى موقع البناء يسلم كل منهم الحجر إلى رفيقه بتعاون لا مثيل له، حتى ارتفع البناء الضخم؛ وتمت المرحلة الأولى حتى وصلت قناطر السقف (العقدية)، وهنا تبدأ المرحلة الثانية الأدق عملاً، فاحتاج البناؤون إلى جسر خشبي كبير له دعامة، فأتوا به على أكتافهم من قرية مجاورة. أما الوصل الخشبي، فقيل إنه كان سارية لسفينة قديمة.

أنزِل الوصل الخشبي ووضع في مكانه، وارتفعت قناطر السقف، وعلى سطح العقدية أقيم هيكل خشبي على طول الكنيسة، وارتفعت قبة الجرس عالية شامخة، حيث إن الجرس الجديد أحضر من "لبنان"، وقد صنعته الأيدي الماهرة في قرية "بيت شباب" ليستقر في صومعته التي أعدت له، ويعلن بذلك عن انتهاء البناء، حيث استمر العمل لمدة سبع سنوات كاملة حتى عام 1889».

القاعة الرئيسة

وتابع الأب "خليل": «أما بالنسبة لأقسام الكنيسة، فالأرض تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الهيكل المقدس، وقسم الوسط حيث يقف المصلون، وقسم الشعرية في الجهة الغربية المكون من طابقين، طولها الكامل من الداخل 21 متراً، وعرضها ثمانية أمتار خالية من الأعمدة، حيث يبلغ علو قنطرتها ثلاثة عشر متراً، وتزيد ثخانة جدرانها على المترين.

لقد استدعي الفنانان "اليان الدوربي" الطرابلسي من "لبنان"، و"صليبا الأورشليمي" من "فلسطين"، حيث فصَل الفنان "اليان" الهيكل عن أرض الكنيسة بجدار فتح فيه ثلاثة أبواب؛ أوسطها أوسعها، وغطى الجدار بالرخام الإيطالي، فنحت ونقش وزخرف، بينما راح الفنان "صليبا" يخطط ويرسم الأيقونات على خشب متميز. وهكذا فقد جمع الفنانون في بناء الكنيسة وزخرفتها الفن البيزنطي الأصيل، وتجلى أسلوب المدرسة الأورشليمية بألوانها ورمزيتها وأشكالها في الأيقونات المقدسة؛ لينهيا عملهما عام 1912».

الجرس

الأب "أنطونيوس مسوح" تحدث عن الخدمات والمبادرات الاجتماعية التي تقوم بها الكنيسة قائلاً: «كنيسة رقاد السيدة في "السودا" محورية جداً في حياة أهالي بلدتها، ترتبط معهم بالأفراح والأحزان والأعياد، منها: عيد الفصح، وعيد السيدة، حيث تكون مدمجة بطابع روحي واجتماعي وثقافي، إضافة إلى الديني، وترتبط أيضاً بالواجبات وتعزية الحزانى ومساعدة الفقراء، والزينة في عيد الميلاد.

إنها من الكنائس المثابرة والرائدة في مساعدة المحتاج وعون الفقير ودعم المريض وطالب العلم، فتساعد الكثيرين من الذين يريدون أن يتعلموا ولا يمتلكون الإمكانات، إضافة إلى امتلاكها أدوات طبية ومستلزمات لذوي الاحتياجات الخاصة أو العجائز الكبار في السن.

وأيضاً امتلاك الكنيسة عدة مرافق حيوية، منها: الملعب، وصالة للتعازي، والمكاتب لخدمة مدارس الأحد والكشاف، وعدة أوقاف ومزارات».

وأضاف الأب "أنطونيوس" قائلاً: «عيد شفعية الكنيسة في 15 آب (عيد رقاد السيدة العذراء)، ففي 14 آب يجتمع جميع أهالي البلدة ويتوافد المئات من القرى المجاورة لزيارتها، ففي ليلة العيد تحديداً تبقى الكنيسة فاتحة أبوابها للزيارة من الساعة الخامسة عصراً حتى الواحدة ليلاً، وبعض الزوار يقدمون النذور ويبقون نائمين فيها.

الكنيسة في دورها المحوري جعلها الملجأ والمنطلق لأهالي البلدة، تساعد عدداً كبيراً من العائلات المحتاجة، ولا تزال في عدة أمور اجتماعية رعائية ثقافية وحيوية؛ من خلال المحاضرات والندوات واللقاءات وفرق السيدات والطفولة والعائلات، هذه الأمور مفعلة ومخدمة».

"إلياس عزيز العطا الله" أحد كبار السن في البلدة، قال عن إحدى الحوادث العالقة بذاكرته حتى الآن عن الكنيسة: «من الحوادث التي ما زالت في الذاكرة وتتناقلها الألسن، أنه عندما كان سطح البناء يشيد كان الماء ينقل بواسطة جرار من الفخار إلى السطح المرتفع، وفي إحدى المرات سقطت جرتين من أعلى السطح، لكن لم يصبهما أي كسر، فتعجب الجميع حينئذٍ، وكانت من الحوادث الجميلة».