"فاتح المدرس".. اسم معروف في أوساط الفن التشكيلي السوري وهو رائد من رواده حيث ترك بصمة واضحة في تاريخ اللوحة الفنية السورية وساهم مع عدد من زملائه الفنانين الذين تخصصوا في دراسة الفنون في الخارج على تشكيل قاعدة أكاديمية متينة للفن التشكيلي السوري عموماً والحلبي على وجه الخصوص، وإضافة إلى الفن فقد كان المرحوم شاعراً وقاصاً له نتاجات أدبية متنوعة، فمن "فاتح المدرس"؟

حول التجربة الفنية الطويلة والغنية للفنان الراحل "فاتح المدرس" يتحدث الفنان التشكيلي والباحث الأستاذ "طاهر البني" لموقع eAleppo: بالقول: «لقد قدم الأستاذ "إبراهيم العلوي"* معرض الفنان "فاتح المدرس" الذي أقيم في معهد العالم العربي في باريس في العام 1995 بالقول: إنّ "فاتح المدرس" ينتج أعمالاً فنية تتميز بالذاتية والتفرد وتستمد قيمها التمثيلية أساساً من كثافة التعبير، ونحن حين نتفحص نتاجه الإبداعي منذ ذلك الوقت حتى اليوم نلاحظ أنّه لا يكف عن مساءلة أعماق الروح والأساطير المهوّمة داخلها، وعلى الرغم من كون لوحاته مشحونة بتوتر داخلي كبير فإنها غالباً ما تأخذ شكل أيقونات دنيوية تتراوح فيها علاقات الألوان والأشكال بين التنائي تارة والذوبان في خلفية تكويناته تارة أخرى، إنّه نتاج وجودي وتعبيري يوظف مادية معجونة اللون ويقين الخط وقلة الألوان في تأكيد حريته المطلقة في الرسم كما يشاء/، من هنا تكتسب الكتابة عن "فاتح المدرس" أهمية خاصة بوصفها الوسيلة التي تكشف لنا عالم هذا الفنان، وللحديث عن "فاتح المدرس" علينا العودة إلى الجذر الذي نما فيه وإلى الظروف البيئية والتاريخية التي شكلت وعيه وساهمت في بنيته الشعورية وذاكرته الإبداعية التي كان لها الحضور الطاغي في إنتاجه الفني».

بدايةً يقول "المدرس" عن نفسه /أنا رسام عربي سوري أرفض الأخذ بالمفاهيم المستوردة المسبقة الصنع وأنا شاهد على جمال الأرض والإنسان وشاهد على الأحزان في عصرنا/، وقال عنه الكاتب "بول شاؤول" راثياً إياه: / لقد خسرنا رسام الشعراء وشاعر الرسامين/، أما الشاعر السوري "أدونيس" فقد قال /لوحة "المدرس" تتمسرح وتمتلئ بالإيقاع الشامل/

وحول طفولته التي كانت المفتاح لإبداعاته لاحقاً يقول "البني": «لقد عاش "فاتح" طفولة شقية ومحرومة متنقلاً مع أمه في القرى الشمالية عند أخواله بعد أن سلبه أعمامه حقه في الميراث الكبير بعد أن قتلوا والده خشية انتقال الميراث إلى أخواله وقد تركت تلك الفترة من حياته أثرها الواضح في وجدانه وسلوكه الاجتماعي وإنتاجه الفني والأدبي، وكأي طفل من أبناء الفلاحين أخذت مظاهر الحياة الريفية تدور من حوله وباتت الطبيعة تشكل المعالم الأولى لوعيه وتنساب في ذاكرته الفتية.

الفنان التشكيلي والناقد طاهر البني

وفي الثامنة من عمره غادر "فاتح" حياة الريف وانتقل إلى "حلب" ليقيم عند أعمامه بحي "الفرافرة" الذي كان يضم مجموعة من العائلات الارستقراطية ولكنه كان يفضّل الإقامة مع أمه في أحد بيوت "باب النصر" بالقرب من "جامع الزكي" وهناك دخل الابتدائية، واجتاز "فاتح الابتدائية" وتابع دراسته في مدرسة "التجهيز الأولى" /"ثانوية المأمون"/، وفي مطلع الأربعينيات غادر إلى لبنان ليتابع دراسته في الكلية الأمريكية في "عالية" ثم عاد إلى "حلب" ليعمل مدرساً للغة الانكليزية والتربية الفنية في ثانويات "حلب" حيث التقى مع زملائه الفنانين الذين كانوا يشكلون الطليعة الفنية في مدينة "حلب" من أمثال: "غالب سالم"- "وهبي الحريري"- "إسماعيل حسني"- "فتحي محمد"- "الفريد بخاش" وغيرهم، وفي العام 1954 وضع مؤلفاً من ثلاثة أجزاء عرض فيه تاريخ الفنون الجميلة وفي العام 1956 جاء قرار إيفاده للدراسة الأكاديمية في روما».

وحول مراحل تطور إنتاجه الفني خلال مسيرته الإبداعية الطويلة يتحدث "البني" بالقول: «في المراحل الأولى التي سبقت سفره إلى روما كان يرسم بوحي أساتذته الذين درّسوه الفنون في "حلب" فكان يرسم الطبيعة والأحياء القديمة والصور الشخصية ببعض الالتزام الموضوعي للشكل المرئي والمنظور بعين مجردة بيد أن هذه الموضوعات أخذت تكتسب صبغة متحررة من خلال اللمسات الجريئة والكثافة اللونية إثر عودته من بيروت كما أخذت الأشكال الواقعية ترتدي ملامح رمزية وأجواء سريالية تجلت واضحة في لوحته /"كفرجنة"/، ولكن الانقلاب الجذري الذي ظهر في إنتاج "المدرس" جاء بعد عودته من دراسته في روما حيث حمل معه ملامح الصورة التعبيرية الجديدة التي راجت في الغرب في منتصف القرن العشرين وهي صورة تتأرجح بين التجريد والتشخيص مستفيدة من الطاقة التعبيرية لمادة اللون من خلال المؤثرات المختلفة التي تقترب من طبيعة المواد والأشكال التي تأثرت بفعل عوامل كيميائية وفيزيائية.

الأستاذ محمد خالد النائف -مدير دار الكتب الوطنية

ولم يقتصر "المدرس" في تأثره على هذا الاتجاه أو ذاك بل رنا ببصره إلى المنحوتات والرسوم التي كشفت عنها التنقيبات الأثرية في الارض السورية وبلاد الرافدين فأفاد من الحس الغرافيكي المخزون فيها كما أفاد من الأشكال البدائية في الريف السوري بما في ذلك من تضاريس الارض وألوانها وأشكال البشر وأزياء الفلاحين».

وحول أهم الجوائز التي نالها "المدرس" خلال مسيرته الإبداعية التي امتدت لأكثر من نصف قرن يقول "البني": «نال "المدرس" العديد من الجوائز المحلية والعربية والدولية وأهمها: الجائزة الأولى في المعرض السنوي الذي أقيم في المتحف الوطني بدمشق في العام 1952 وجائزة استحقاق من المعرض الدولي في جامعة ليكلاند –فلوريدا سنة 1952 والجائزة الأولى من أكاديمية الفنون الجميلة في روما سنة 1960 وجائز شرف من بينالي سان باولو سنة 1963 وجائزة الدولة للفنون الجميلة سنة 1968 وجائزة الشراع الذهبي في المعرض الخامس للفنانين العرب في الكويت سنة 1977 وغيرها».

الفنان فاتح المدرس في مرسمه 1998

وعن شخصية "فاتح المدرس" تحدث أيضاً لنا الأستاذ "محمد خالد النائف" مدير دار الكتب الوطنية: «ولد الفنان والشاعر "فاتح المدرس" في "حلب" في العام 1922 وتوفي في مدينة "دمشق" في العام 1999، وفي فترة نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي تتلمذ على يد الفنان "وهبي الحريري" ثم عمل مدرساً لمادة الفنون في "حلب" في الأربعينيات وشارك في المعارض الأولى التي نظمتها وزارة المعارف السورية منذ بداية الخمسينيات، وفي العام 1957 سافر إلى إيطاليا للدراسة حيث تخرج في أكاديمية الفنون الجميلة في روما بعد ثلاث سنوات وخلال وجوده للدراسة في إيطاليا تعرّف على الكثير من الفنانين والمفكرين والمثقفين الأوروبيين الذين تحاور معهم بعمق، وبعدها درّس في أكاديمية الفنون الجميلة في باريس ونال الدكتوراه في العام 1972».

ويضيف "النائف": «لقد كان له محترف مزدحم باللوحات الفنية والنصوص الأدبية والأشرطة الموسيقية والسينمائية فقد كان "المدرس" مسكوناً بهواجس الفكر والإبداع إلى آخر يوم في حياته، لقد كان فناناً ورساماً تعبيرياً انطباعياً رسم ثنائيات الصمت والغناء، الخير والشر، الحب والألم، الغضب والنضال كما شارك الفنان المبدع "فاتح المدرس" في العشرات من المعارض الفنية الفردية في كل من بلده الأم سورية إضافةً إلى أمريكا وفرنسا وكندا والمغرب والبرازيل وألمانيا وغيرها من الدول».

وحول الجانب الأدبي في شخصية "المدرس" يقول مدير دار الكتب الوطنية: «لقد كان "المدرس" متنوع الإبداع وكثير العطاء فقد كان قاصاً وشاعراً ورساماً ومفكراً وموسيقياً ناضل خلال حياته ضد الظلم والاضطهاد ودافع عن قيم الخير والحق والجمال بكل ما أبدع، لقد كان "المدرس" عضواً في جمعية القصة والرواية في اتحاد الكتاب العرب، وفي العام 1962 أصدر ديوان شعر باللغتين العربية والفرنسية بالاشتراك مع "شريف خزندار" وفي العام 1981 صدرت له مجموعة قصصية بعنوان /عود النعنع/، ومن مؤلفاته الأخرى: /تاريخ الفنون في اليمن/ قبل الميلاد– دراسة، /دراسات في النقد الفني المعاصر/– دراسة 1954، ديوان شعر بعنوان /الزمن الشيء/ بالاشتراك مع الأستاذ "حسين راجي" 1985».

ويتابع الأستاذ "النائف" مورداً بعض ما قيل عن "المدرس": «بدايةً يقول "المدرس" عن نفسه /أنا رسام عربي سوري أرفض الأخذ بالمفاهيم المستوردة المسبقة الصنع وأنا شاهد على جمال الأرض والإنسان وشاهد على الأحزان في عصرنا/، وقال عنه الكاتب "بول شاؤول" راثياً إياه: / لقد خسرنا رسام الشعراء وشاعر الرسامين/، أما الشاعر السوري "أدونيس" فقد قال /لوحة "المدرس" تتمسرح وتمتلئ بالإيقاع الشامل/».

يُذكر أنّ الفنان السوري العالمي "فاتح المدرس" كان عضواً في المجلس الأعلى للفنون بدمشق ونقيب الفنون الجميلة في سورية لأكثر من عشر سنوات وأستاذ الدراسات العليا في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق وعضو مؤسس لاتحاد الفنانين التشكيليين العرب، ويُذكر أيضاً أنّ السينما السورية أخرجت ثلاث قصص في ثلاثية له بعنوان /العار/ سنة 1973 كما كُتب عنه مجموعة من الكتب والمقالات في مختلف الصحف السورية والعربية، وأخيراً توفي الفنان "فاتح المدرس" في 28 حزيران من العام 1999 في مدينة "دمشق"».

  • "إبراهيم العلوي": مسؤول عن الفن المعاصر في معهد العالم العربي في باريس.