إن المشهد المأخوذ من شارع "القوتلي" الآن ليس هو المشهد الذي بدأ فيه قبل سبعين سنة من الآن، صحيح أن التسمية بقيت على حالها لكن المنطقة شهدت تحولاً كبيراً في حركتها حينما كانت العائلة الحلبية تقصدها من كل حدب وصوب لقضاء وقت أو سهرة ممتعة وأنظارها متجهة نحو الشاشة الكبيرة.

هذا الحال بدأ في "حلب" عندما طرقت أفلام السينما العالمية أبواب دور العرض فيها فكانت بداياتها منذ عام الثلاثينات حيث اعتبرت "حلب" من أوائل المدن العربية التي بدأت فيها السينما وهذا بحكم طبيعة احتكاكها بالدول الأوروبية من خلال "طريق الحرير" الذي كان يمر منها وما تشكل مدينة "حلب" من أهمية خاصة وخصوصاً بفترة الحكم العثماني.

فكانوا يضعون الإعلان قبل عرض الفيلم بيوم أو يومين إن كان الفيلم مهماً ومطلوباً من قبل الجماهير وفي الغالب كان يعرض في الفترة المسائية، ومعظم ورشات الإعلان كانت تتوضع قرب دور العرض السينمائي وتحديداً بمنطقة سينما "ريو" سابقاً وعبارة سينما "حلب"، وعبارة سينما "الحمراء"

إن التطور الذي نشهده الآن في عصر السينما والآلية التي تعمل عليها لم تكن لترى النور قبل البدايات الأولية التي شهدتها آلية عمل السينما أوضحها أحد المهتمين بهذا الموضوع وهو القاضي "سعد زغلول الكواكبي" لموقع eAleppo قائلاً: «إن طريقة عمل آلة السينما كان مقتصراً على تحريك بكرات الفيلم بواسطة اليد وكان الضوء المنبعث على الشاشة البيضاء يأتي من لمبة الكاز التي كانت توضع خلف الفيلم، تلك هي الأحداث التي جرت عندما قامت أول سينما مقابل فندق "بارون" وكان اسمها "تينوغراف" بعرض أولى الأفلام الصامتة، مع سينما "بلاس" والتي أتت بعدها مباشرة، واستمر بعد ذلك عرض الأفلام الصامتة إلى أن أضيفت شاشة ثانية إلى جانب الشاشة الأولى لكي تظهر حوار شخصيات الفيلم بشكله المكتوب، ومع هذا كان هناك قلة من يستطيعوا قراءتها.

غسان دهبي

وبقي الأمر على هذا الحال إلى أن افتتحت سينما "الشرقي" بمنطقة "باب الفرج" وعرضت فيها الأفلام الناطقة المنوعة وبالأبيض والأسود ثم تتالت مراحل إنشاء العديد من دور عرض السينما مثل "الأمبير"، و"رويال"، وسينما "الكندي" و"الفيصل" وغيرهم، لكن أشهرهم كانت سينما "روكسي" عندما كانت تعرض إضافة للأفلام السينمائية صور تأبين للشخصيات الهامة وأحيانا كانت سينما "باتيه" تخصّص أوقات خاصة للنساء من خلال إعلانات مسبقة.

وقد اشتهرت سينما "الأمبير" بالأفلام العربية حينما عرضت أول فيلم ناطق تكلم فيه عن مناسك الحج وقد حضره في ذلك الوقت الشيخ "محمد الحكيم" إمام الجامع "الأموي الكبير" بـ "حلب".

محمد هلال دملخي

لكن وفي أوجه ازدهار فترة السينما في "حلب" كان هناك العديد من صالات العرض في مختلف البلدان العربية تشبه بعضها ولأسباب ذكرها الأستاذ "غسان دهبي" عضو نقابة الفنانين بـ "حلب" فيقول «ومنها صالة "روكسي" بـ "حلب" بحيث كانت تشبه صالات "بيروت" و"باريس" في الوقت نفسه وهذا عائد لامتلاك العديد من عائلات "حلب" لأكثر من دور للسينما في ذلك الوقت ومن بينها عائلة "استانبولي" إضافة لبعض الشركات السينمائية التي كانت تمتلك لأكثر من دور عرض مثل سينما "الشرق" و"الأمبير" و"الحمرا"».

ومن اللافت للنظر وبسبب تصدر مدينة "حلب" قائمة المدن الأولى في عرضها لذلك الفن فقد انعكس ذلك وتميزت بالعديد من المخرجين المميزين في تلك الفترة والتي امتدت من عام 1903ـ 1981 ومن بينهم "إسماعيل أنزور" وقدم أول فيلم سوري صامت بعنوان "تحت سماء دمشق" ثم ألحقه بفيلم "المتهم البرئ" للمخرج "أيوب بدري" والثالث حمل عنوان "نور وظلام" للمخرج "نزيه الشهبندر" ثم "عابر سبيل" للمخرج "أحمد عرفان" إضافة للمخرجين الآخرين وهم "أنور السردار" و"رضا ميسر" وقد اعتبروا من أوائل المخرجين الذين أنتجوا أفلاماً سورية ودرسوا مع المخرج "مصطفى العقاد" بـ "أمريكا"».

الإعلانات السينمائية

أوقات العرض السينمائي

هناك من الأفلام التي كانت تتمتع بالشعبية الكبيرة ولذلك كان يستمر عرض الفيلم لأسبوع حتى يتثنى لأغلب الناس متابعته وعن هذا أضاف "دهبي" قائلاً: «مثل الأفلام العربية والهندية وكان يوم "الاثنين" هو بداية عرض فيلم جديد مع وجود بعض الاستثناءات حينما كان يمتد عرض الفيلم لعدة أسابيع مثل فيلم "أبي فوق الشجرة"، و"ليلى العامرية" التي عرضته سينما "فؤاد" ولمدة عشرة أسابيع شارك فيه الفنان الراحل "أحمد نهاد الفرا" و"محمود المليجي" و"يحيى شاهين"، ومن المميز في دور العرض السينمائي أنه عندما كان يعرض الفيلم ولأول مرة كان بطل الفيلم هو أول من يفتتح العرض ومنهم الممثل "يوسف شعبان" و"عادل إمام" وأحياناً شخصيات لامعة من النجوم العالمية.

وفترة العرض كانت تنقسم لأربع أوقات بدءاً من الصباح في 10.30 ، 3.30 ، 6.30 ، 9.30 مساءً ، وفي الأغلب كانت الساعة 6.30 من مساء كل يوم تخصص لحضور للعائلات بحيث تقطع التذاكر قبل يوم من عرض الفيلم، وفي ذلك الوقت قد صنفت إلى ثلاث درجات، وتشمل بطاقات للشباب، وللطلاب، وسعرها /60/ قرشاً ولعامة الناس بـ /85/ قرشاً».

أسماء دور السينما وتخصّصاتها

بسبب انتعاش حركة السينما في مدينة "حلب" وكثرة روادها وازدياد دور العرض أدى ذلك إلى تخصص البعض بعرض معين من الأفلام وبفترات محددة لكي يكون هناك استقطاب معين من روادها ومنها أضاف "دهبي": «مثل سينما "حلب" بحيث خصّصت للأفلام الأجنبية و"الأوبرا" للأفلام الهندية و"رمسيس" للأفلام التي تناولت قصص الروايات العالمية إضافة "للأهرام" و"الأمبير" و"الشرق" و"العباسين" كانوا يعرضون أفلاماً متنوعة وجميعهم توضعوا بـ شارع "بارون"، وأما في منطقة "الجميلية" فكانت سينما "فريال" و"الفردوس"، وسينما "الجمهورية" في ساحة "سعد الله الجابري"، و"غرناطة" في منطقة "الحميدية" و"الجواهر" و"سورية" بمنطقة "السليمانية" و"السعد" في منطقة "باب النصر"».

العائلات الحلبية التي عملت بالسينما

نتيجة لبروز مدينة "حلب" واعتبارها من أوائل المحافظات التي دخل إليها العرض السينمائي فكان لابد وأن يكون للعديد من سكانها نتاجات عديدة عددها "دهبي" قائلاً: «مثل الممثل "نديم شرباتي" والذي شارك بفيلم "غابة الذئاب" مع الفنان "صباح فخري" و"محمد شاهين" بفيلم "وقائع العام المقبل"، وهناك فيلماً يحمل عنوان "بقايا وصور" من تأليف "حنا مينه" وفيلماً آخر يسمى "تراب الغرباء" مخرجه "سمير ذكرى" إضافة للبانوراما التي شاركوا فيها العديد من الممثلين ومنهم الفنان "غسان مكانسي" بفيلم "المدينة الهادئة"، و"امرأة من نار" الذي شارك فيه الفنان الراحل "فاتح الغضنفر"، "أديب قدورة"، "ظريف صباغ"، ومن العائلات الحلبية التي عملت في مجال السينما مثل عائلة "الحمرا"، "السردار"، "جطل"، "أنور السرّاج"، "أنيتبا"، "جبل"، ومن الذين درسوا السينما وعملوا في الإنتاج هم عائلة "الواعظ" و"محمد أنور سردار"».

طقوس أهالي "حلب" في الذهاب للسينما

من المعروف بأن أهالي "حلب" لهم طقوس معينة، وكانت العائلة تتجهز قبل موعد عرض الفيلم بساعات من أجل حضور عرض فيلم وتابع "دهبي" : «فقبل ساعات من بداية عرض الفيلم كان الناس يتأنقون ويتألقون في اللباس، وعندما يخرجون لقضاء أوقاتهم كانت السينما محط اهتمامهم وخصوصاً من قبل الزوجين أو الخطيبين فتلك هي المقصد الكبير للترويح عن أنفسهم مصطحبين معهم العديد من المشروبات الغازية الساخنة أو الباردة والموالح من أمثال الكازوز والبوظة والبوشار وتلك أهم العادات لأغلب مرتاديها».

التغيرات التي طرأت على دور عرض السينما في "حلب"

هناك العديد من دور العرض السينمائي بمدينة "حلب" طرأ عليه العديد من التغيرات في الاسم والبعض منهم أزيلت من المنطقة التي كانت تشغلها ومنها عددها الباحث المسرحي "محمد هلال دملخي" قائلاً: «سينما "فريال" الكائنة في شارع 17 "نيسان" بحي "الجميلية" ألغيت وأعيدت في عام 1974 لتكون مسرحاً باسم فرع "نقابة الفنانين"، سينما "السعد" الكائنة في شارع "باب النصر" أزيلت أواخر التسعينات وحل مكانها مبنى يضم عدداً من المكتبات، سينما "رويال" حالياً تعرف باسم سينما "حلب" وموقعها الحالي في شارع "القوتلي"، سينما "أوديون" عرفت فيما بعد بسينما "ديانا" وحالياً تعرف بسينما "الحمراء" وموقعها شارع "القوتلي"، سينما "الإتحاد" عرفت بسينما "الشرقي" ثم سينما "أورينتال" ثم سينما "العباسية" وحالياً أصبحت صالة "بلقيس للأفراح والأعراس" وتقع في ساحة "باب الفرج" غرب فندق "الشيراتون"، سينما "دنيا" عرفت بسينما "الجمهورية" وكانت تقع في وسط ساحة "سعد الله الجابري" وأزيلت في السبعينيات من القرن المنصرم، سينما "روكسي" عرفت بسينما "الأهرام" وحالياً تعرف بسينما "الأمير" وموقعها شارع "بارون"، سينما "الشرق" وهي الآن تعرف بسينما "الكندي" وموقعها بشارع "القوتلي" وهي تتبع للمؤسسة العامة للسينما، سينما "أمبير" وعرفت بسينما "فؤاد" وموقعها شارع "القوتلي" وأزيلت في التسعينيات، سينما "ليلى" وتعرف الآن بسينما "الخيام" وموقعها شارع "القوتلي"، سينما "القاهرة" وتعرف الآن بسينما "الشام" وتقع غربي "ساعة باب الفرج"، سينما "سورية" وعرفت بسينما "السفراء" بشارع "السليمانية" جانب محطة "سورية" وقد ألغيت وأصبح مكانها فرناً للخبز ثم تحولت فيما بعد لمكتب لبيع السيارات، سينما "رمسيس" وموقعها شارع "بارون" وقد تحولت الآن إلى مقهى يحمل نفس الاسم، سينما "فاروق" وموقعها منطقة بستان كل آب وقد حل مكانها مطعم، سينما "الأوبرا" ولا تزال حالياً بشارع "بارون"، سينما "أراكس" عرفت بسينما جواهر وتقع في آخر شارع "السليمانية" مقابل محطة "تتان" وألغيت في السبعينيات، سينما "أوغاريت" ولا تزال بشارع "يوسف العظمة" بمنطقة "العزيزية"، سينما "الفردوس" وموقعها بـ شارع "اسكندرون" بمنطقة "الجميلية" وحل مكانها صالة لعرض المفروشات، سينما "الزهراء" وتقع بشارع "بنسلفانية" بمنطقة "السليمانية" حالياً، سينما "غرناطة" وتقع في شارع "الحميدية" وقد حل مكانها صالة "السيد للأفراح والعرائس"

شكل الإعلان السينمائي وأماكن عرضه

كان يسبق عرض الفيلم السينمائي بيوم أو يومين مجموعة من الإعلانات التي يتم رسمها من إحدى لقطات الفيلم ذاته وكانت تسمى بالأفيش وتعرض في العديد من مناطق "حلب" ومنها أوضحها الرسام "برهان عيسى" حينما كان والده الفنان "جاك" يعمل في مجال صناعة إعلانات الأفلام وعن تلك الأماكن يقول: «مثل ساحة "العزيزية"، "السليمانية"، "سعد الله الجابري" ، وكانت هذه المناطق وبصورة دائمة ساحة لعرض مثل هذه الإعلانات وأحياناً كان يأخذ الإعلان صورتان مختلفتان لنفس الفيلم وأحياناً صورة واحدة لجميع الإعلانات المعروضة والتي لا يقل عددها عن عشرين إعلاناً في ذلك الوقت، والإعلان كان عبارة عن صورة يقوم الرسام برسمه من خلال لقطة كانت تأتي مع الفيلم ذاته ، وبعض الإعلانات الأخرى كانت تصنع من الخشب وتلون، وبعد الستينيات أخذت الرسوم الإعلانية تنحسر رويداً رويداً واستعاض عنها الكتابة بخط اليد».

الأماكن التي كانت تشغلها ورشات الإعلان

في بداية العرض السينمائي كانت دور العرض تتسابق في عرض إعلاناتها في مختلف المناطق للحصول على جذب اكبر من المشاهدين وكان عدد الرسامين في ذلك الوقت لا يتجاوز العشرة أشخاص وأضاف "عيسى": «فكانوا يضعون الإعلان قبل عرض الفيلم بيوم أو يومين إن كان الفيلم مهماً ومطلوباً من قبل الجماهير وفي الغالب كان يعرض في الفترة المسائية، ومعظم ورشات الإعلان كانت تتوضع قرب دور العرض السينمائي وتحديداً بمنطقة سينما "ريو" سابقاً وعبارة سينما "حلب"، وعبارة سينما "الحمراء"».

لكن "عيسى" لن ينسى أول إعلان قد رسمه عن فيلم أمريكي يحمل عنوان "الستة السود" وبهذا انطلق ليكون من إحدى الفنانين الذين شاركوا في عملية الإعلان السينمائي وحول هذا يقول: «كان لي زميل يعمل معي وكان اسمه "محمد مرّاش" ولم يعمل لفترة طويلة لأن مرحلة السبعينيات بدأت تنخر في مفاصل الفترة الذهبية للحركة السينمائية والتي بدأت منذ الخمسينيات وقل الاهتمام بذلك وقد عزفت الكثير من دور السينما على الاهتمام بالإعلان السينمائي واكتفت من خلال كتابة اسم الفيلم وتاريخ العرض على اللوحة الإعلانية ، ثم بدأ الناس شيئاً فشيئاً بالعزوف عن مشاهدة أفلام السينما نظراً لدخول التلفزيون واقتحامه للبيوت.