حبه وشغفه بالموسيقا جعل منه عازفاً مهماً واسماً معروفاً في مختلف الساحات الفنية، ومعاناته مع آلته "القانون" ومحاولته إصلاحها حوّلته إلى صانع ماهر ذائع الصيت وجعلت آلته مميزة بين آلات القانون في العالم.

إنه الأستاذ "نبيل قسيس"، ولنتعرف إليه عن قرب كان لموقع eSyria لقاء معه حدثنا فيه عن نفسه وبداياته: «ولدت في مدينة "حلب" في حي "العزيزية" ضمن عائلة تهوى الطرب والفن الأصيل لكني وأخي "نعيم" كنا الوحيدين اللذين دخلنا عالم الفن الاحترافي وما تبقى من العائلة نستطيع تسميتهم بالسميعة.

لابد من التذكير بأن الماكينات والقوالب التي أستخدمها في الصناعة هي من إنتاجي شخصياً وغير متوفرة في السوق، وهي نتاج اجتهادات شخصية وحصيلة لخبرة وتجربة طويلة ومعاناة لا يستهان بها

كانت بداياتي في الفن عندما درست العزف على القانون على يدي الأستاذ "صافي زينب" والأستاذ "حسان تناري" رحمهما الله والقواعد النظرية والشرقية على يد الأستاذ "نوري اسكندر" وذلك بعمر الثالثة عشرة. وعندما أتممت الثامنة عشرة انتسبت لنقابة الفنانين عام /1994/ وتابعت خلالها تطوير موهبتي وتقنياتي في العزف، ودرَّست بعدها في معظم معاهد الموسيقا في "حلب" مثل "معهد حلب للموسيقا"».

يعمل في ورشته

عمل "قسيس" مع عدد من الفنانين السوريين المعروفين مثل: "صبري مدلل، شادي جميل، صفوان العابد، الياس كرم، عصمت رشيد، أديب الدايخ". أيضاً من خارج سورية عمل مع الفنانة "ماجدة الرومي" مدة خمس سنوات ضمن فرقة الربيع التي يقودها الأستاذ "أسعد خوري"، ومع الفنان "معين شريف"، و"عبد الكريم شعار"، و"فاديا نجم" والكثير جداً من المطربين المحلّيين.

هذا الانغماس في العمل الفني جعله بعيداً كل البعد عن فكرة صناعة الآلات الموسيقية حيث كان مكتفياً بتعلم العزف فقط، يقول: «اشترى أبي لي قانوناً مصنعاً في "حلب" وبدأت بالتعلم عليه لكني وجدت كماً هائلاً من الأخطاء القاتلة، فهذا القانون كان عبارة عن صندوق خشبي وعليه أوتار بلاستيكية وصوته خالٍ تماماً من أي إحساس، عدا عن الصعوبة التي كنت أعاني منها في عزف مقام من المقامات بشكل صحيح، وهنا بدأت أطالب أبي بشراء آلة جديدة لكننا وقعنا في حيرة كبيرة، فالقانون المصري مصنع في مناخ حار ورطب ويتأثر بالمناخ المعتدل في سورية، والقانون التركي عكسه تماماً ويختلف بشكل جذري عن القانون العربي بطبيعة صوته وبنظام عُـربه، وفي هذه المرحلة لم يبقَ لي خيار سوى الاقتناع بما وجد لدي هنا، وبما أن مشوار الألف ميل يبتدئ بخطوة فقررت وأنا ابن الثالثة عشرة أن أبدأ بتصليح آلتي بمفردي بمزيد من الجرأة والتصميم واستهزاء من الأهل والأصدقاء تارة وتوقع للفشل تارة أخرى. وبأدوات بسيطة جداً وبالتعاون مع جاري النجار وإشراف أستاذي "صافي زينب" كان لي ما أردته، وأصبحتْ لدي وقتها آلة أفضل نسبياً. ثم بدأت بصناعة آلة أراعي فيها المقاييس ونوعية الخشب والجلد بشكل دقيق وبنفس الطريقة والأدوات، فصنعت آلة جديدة خاصة بي. وأثناء زيارتي لأحد عازفي القانون الكبار عرض علي شراء هذه الآلة فلم أمانع أبداً وبذلك تتوفر لي السيولة المادية التي تساعدني على إكمال مشروعي، بعدها صرت أصنع وأبيع، ومن فرط إعجاب الأستاذ المرحوم "حسان تناري" بما أصنع قررأن يدرسني العزف مع أنه كان قد اعتزل التدريس منذ فترةآنذاك».

نبيل قسيس يحتضن القانون

هذه المرحلة كانت محورية جداً في حياة "قسيس" المهنية والفنية: «بدأت أستفيد من خبرتي في العزف ومعرفتي لمواطن الخلل في الآلة وأصبحت صناعتي تتطور شيئاَ فشيئاً إلى أن وصلت إلى هذا المستوى وأسست ورشة متواضعة لصناعة آلات القانون وأصبحت آلتي تُقتنى من قبل طلاب المعهد العالي في "دمشق" ومن قبل كبار عازفي القانون في الوطن العربي أمثال "محي الدين غالي، جلال جوبي"، كما أصبحت آلتي تطلب إلى الدول العربية وأوروبا والأمريكتين».

ولدى سؤاله عن مكونات آلة القانون والمواد التي تدخل في صناعتها أضاف الأستاذ "نبيل": «آلة القانون تدخل فيها مجموعة متنوعة من المواد الأولية تنقسم إلى:

القانون

** الأخشاب "خشب الجوز، الأكاجور، الأرز، الطنوب، الزان، وخشب ورد وبليساندر وأبانوس" في التطعيم والتدعيم والتجميل.

** صدف بحري: مستخرج من البحر ومقطّع بأشكال هندسية يدخل في آلة القانون لإعطائها طابعاً جميلاً.

** موزاييك شامي: يدخل الموزاييك في آلة القانون وفي بعض الأماكن لإعطائه رونقاً جميلاً والدلالة على الطابع السوري التي هي الأولى في "الموزاييك".

** عاج الفيل: يُخرط بشكل مخاريط صغيرة ويدخل في أصابع الدوزان يعطيها مظهراً جميلاً جداً.

** عاج صناعي: يدخل في بعض الأماكن التي لا نستطيع إدخال عاج الفيل إليها.

** جلد السمك الصعيدي (الدقماق): هذا الجلد هو جلد سمك نهري مستخرج من نهر النيل فقط، وفي منطقة الصعيد (الجنوب)، ونحن نأخذ جلد السمك الذكر والبياض منها (أي منطقة العمود الفقري للسمكة) التي تعطي متانة أكبر ورنيناً أكثر وثباتاً كبيراً في الدوزان.

** النحاس: وهو المادة التي تُصنع منها العربات التي نستعملها في التنقّل بين المقامات.

** الأوتار: والتي باتت تشترى جاهزة.

** طلاء القانون: وهو مادة "Gomme-laque" (دملوك أو كمليكا) مضافاً إليها الكحول، وهذه المادة هي مادة عضوية لا تؤثر على الصوت، بل فقط لحماية الآلة من الرطوبة وإعطائها لوناً جميلاً وهي تطلى بواسطة القطن وبالطريقة اليدوية مع الكحول.

** الغراء: هو غراء أحمر داكن اللون مستخلص من عظام الحيوانات، يستعمل عن طريق التسخين. وهذا الغراء لا يؤثر على صوت الآلة لأنه لا يحوي مواد بلاستيكية».

وعما يميز صناعته عن المعروض في السوق قال الأستاذ "قسيس": «أنا أستخدم إضافة إلى الأخشاب التي ذكرتها أخشاباً أخرى مثل "Epicea" و"Erable" المعروف بالعربية "القيقب" وهذه أخشاب من منشأ كندي تستخدم في صناعة عائلة الكمنجات. إضافة إلى أني أضع العربات المصنوعة من الكروم بدلاً من النحاس، فمادة الكروم لا تتأثر بالعوامل الجوية مطلقاً ولا تصيبها الأكسدة، هذا بالإضافة إلى كوني الوحيد في "سورية وربما في العالم الذي يضع للقانون العربي إن طلب 11 عربة بدلاً من أربع عربات وهذه الطريقة تعتمد على السلم الموسيقي العربي قبل تعديله من قبل "باخ"، وبذلك يحافظ العازف على هوية المقامات العربية كما كانت، بمعنى أن علامة "مي بيمول" مثلاً المستخدمة في مقام "الكرد الشرقي" هي غيرها التي تستخدم في مقام "دو مينور" الغربي المعروف لدينا بالنهوند، والجميع يستخدم نفس العلامات الغربية في المقامات العربية، طبعاً عدا الأرباع الشرقية».

بلغ إنتاج "نبيل قسيس" من الآلات من عام /1994/ حتى الآن حوالي /200/ آلة ومازال يضع في كل واحدة رؤية جديدة وميزة خاصة: «لابد من التذكير بأن الماكينات والقوالب التي أستخدمها في الصناعة هي من إنتاجي شخصياً وغير متوفرة في السوق، وهي نتاج اجتهادات شخصية وحصيلة لخبرة وتجربة طويلة ومعاناة لا يستهان بها».

ولدى سؤاله عن الحفلات التي أحياها يضيف: «بصراحة أنا أعزف من عام /1994/ بمعنى أنه في رصيدي حفلات كثيرة رسمية وغير رسمية أذكر منها: مهرجان حلب عاصمة الثقافة الإسلامية.

المهرجان الدولي للمالوف في "سكيكدة". (المالوف هو قالب الموشحات في دول المغرب العربي)، وضمن فعاليات هذا المهرجان قدمت محاضرة بعنوان "الأثر السيئ لآلة القانون على الموسيقا العربية" والمقصود: في حال استخدام السلم الموسيقي المعدل الآنف الذكر. وشاركت في مهرجان الموسيقا الأندلسية والموسيقا العتيقة في "الجزائر" في عام /2008/، وفي حفل افتتاح مؤسسة "التوثيق والبحث في الموسيقا العربية" في "لبنان". مهرجانات رمضان في لبنان في كل من "صيدا وطرابلس وبيروت"، ذلك إضافة إلى الحفلات مع المطربين الذي ذكرتهم سابقاً في معظم دول العالم».

بقي أن نذكر أن الأستاذ "نبيل قسيس" هو من مواليد "حلب" عام /1976/ وهو خريج المعهد الهندسي بجامعة حلب اختصاص "الكترون"، وهو حالياً رئيس "فرقة حلب الموسيقية" التي تضم عدداً من العازفين والمطربين وتقدم التراث السوري بشكل منمق مع الحفاظ على أصالته.