للريفيين قصص طريفة وحكايات شيقة مع المصابيح على اختلاف أنواعها وأشكالها، تلك المصابيح التي تغيرت وتطورت عبر الزمن ولكن وظيفتها بقيت واحدة وهي إضاءة البيوت الريفية.

لمعرفة المزيد عن سبل إنارة المنازل الريفية قديماً وأنواع المصابيح التي كانت تُستخدم فيها وذلك قبل وصول الكهرباء إليها التقى مراسل موقع eSyria في ريف منطقة "عفرين" بالمعمّر "خليل إبراهيم" وهو من مواليد 1935 والذي قال: «منذ أن وعيت على الدنيا وتعرفت على ما حولي كانت الإنارة في بيوتنا الريفية شبه معدومة، وبالرغم من أنّ والدي كان مختاراً لخمسة قرى فالإضاءة الوحيدة التي كانت متوفرة حينها في بيتنا وعموم بيوت قريتنا كانت عبر إشعال النار في مدخنة البيت وذلك كوسيلة للتدفئة والحصول على النور بنفس الوقت، وما زلت أتذكر والدي حين كان يجلس بالقرب من المدخنة لقراءة الأوراق وختمها وذلك على ضوء النار وقد كان يطلب من والدتي بين الحين والآخر أن تضع الحطب على النار لتزداد الإضاءة في البيت كي يقرأ الأوراق بشكل جيد».

أتذكر أنّ تنكة الكاز كانت تُباع آنذاك بخمسة ليرات أما الأوقية منه فكانت تباع بثلاثة فرنكات علماً أنّ كل عشرة أوقية تساوي ثلاثة كيلوات وربع

وتابع حديثه بالقول: «بعد ذلك بفترة تم استخدام مصباح زيتي بدائي تم صنعه محلياً من خلال قص تنكة /صفيحة معدنية/ ولويها حتى يصبح معكوفاً ويشبه الصحن ومن ثم وضع قليل من زيت الزيتون فيه والذي كان متوفراً بكثرة في المنطقة وأخيراً وضع طرف فتيل مصنوع من القطن في الزيت والطرف الثاني تحت حجرة وإشعالها».

خليل واللوكس

«وفي منتصف الأربعينيات حين كنت في العاشرة من عمري ظهر نوع جديد من المصابيح كانت تُسمى "فيسكة" وهي عبارة عن فانوس بدائي معدني كان يُملأ بالزيت المقلي أو الكاز وكانت الفيسكة تُستخدم في المراحيض وأثناء إطعام الماشية أو الدواب ليلاً في الكهوف والمغاور، وقد كانت مؤلفة من فتيلة مدوّرة صغيرة تبرز من أنبوب أو لسان قصير لتمتص الزيت أو الكاز من طاستها الصغيرة ونادراً ما كانت تُستخدم في إنارة البيوت بسبب /الشحوار/ الذي كان ينبعث منه أثناء الاشتعال ولكن النساء الريفيات كن يضعن في أعلى الفانوس وهو مشتعل صحناً ليتجمع عليه /الشحوار/ فيصبح كحلاً يستعمل للزينة».

«بعدها ظهر "الفانوس الألماني" -والكلام ما زال له- وكانت أكثر استخداماته أثناء المشاوير والزيارات الليلية وخاصّةً في فصل الشتاء فقد كان مصنوعاً بطريقة فنية بحيث لا تطفئه الريح والمطر وكان له ذراع في جانبه ما أن تضغط عليه حتى ينفتح وذلك لإشعاله أو إطفائه أو تغيير بلورته أو تنظيفه».

بنفش ومصباح الكاز

وأضاف: «وفي تلك الأثناء /حوالي منتصف الخمسينيات من القرن الماضي/ ظهرت "لمبة الكاز" التي ما زالت تُستخدم في الريف حتى يومنا هذا وتتألف من علبة زجاجية في الأسفل تملأ بالكاز وبلورة تُركّب في أعلاها تسمى بالقزاز وكذلك من الفتيل القطني وكانت تُعلّق على الجدار بمسمار أو ركيزة خشبية مخصصة لها، وكانت بعض العائلات تتفنن في صنع بيوت خاصّة بها وفي كل يوم كانت الفتيلة المحروقة والمتشربة بالكاز تُقص وتُسوّى لتكون الإنارة أفضل والضوء أكثر».

أما زوجته "بنفش إبراهيم" من مواليد 1945 فقد قالت: «في بداياتي حيث كنت طفلة صغيرة أتذكر نوعين من المصابيح الدارجة حينها لإنارة البيوت أولها "لمبة الكاز" و"اللوكس"، أما "اللوكس فقد كان موجوداً في بيوت المقتدرين فقط وحتى في تلك البيوت لم يكن يُشعل إلا عند حضور ضيوف أعزاء أو في مناسبات الفرح، وقد كانت له بلورة في الأعلى وطاسة للكاز من الأسفل».

كتاب الأستاذ جمعة عبد القادر

«طريقة إشعاله كان يشد انتباهنا نحن الأطفال فقد كان هناك حوض صغير تحت القميص الأبيض الحريري /الكيس/ ُيملأ بالكحول ويُشعل فيشتعل الكيس الحريري ثم يُضخ الكاز إلى الرأس بضاغطة يدوية ليتوهج الكيس ويشع المكان بهالة من النور المبهر والذي كان يتفوق كثيراً على "مصباح الكاز" الشاحب، وبعد فترة ليست بطويلة امتدت أعمدة الكهرباء على طول الريف وعرضها».

وعن طرق الحصول على الكاز قديماً قالت "بنفش": «كانت هناك دكاكين في مدينة "عفرين" لبيع الكاز وبين الحين والآخر كان الرجال يذهبون للمدينة لشراء الكاز بواسطة قناني زجاجية صغيرة أو من خلال شرائها من الباعة الجوالين /العطارين/ في الريف حيث كنا نشتري الكاز وكذلك الفتيل القطني مقابل البيض البلدي أو الزيت بدلاً منها».

وتابع زوجها "خليل": «في "عفرين" وفي الخمسينيات من القرن الماضي كانت المحلات تبيع الكاز وكنا نذهب على الحمير والبغال وهناك كان صاحب الدكان يملأ القنينة بالكاز ويسد فمها بإحكام وذلك بواسطة حبة تمر».

وعن أسعار الكاز حينها قال: «أتذكر أنّ تنكة الكاز كانت تُباع آنذاك بخمسة ليرات أما الأوقية منه فكانت تباع بثلاثة فرنكات علماً أنّ كل عشرة أوقية تساوي ثلاثة كيلوات وربع».

هذا في الريف أما عن مدينة "عفرين" فيقول الأستاذ "جمعة عبد القادر" وهو مؤلف كتاب /"عفرين"، أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات في القرن العشرين -مشاهد وانطباعات/ الصادر عن "دار نون" للنشر في مدينة "حلب" في العام 2008: «لم تعرف مدينة "عفرين" الكهرباء إلا في العام 1954 وقبل ذلك كانت شوارع المدينة تُنار بواسطة اللوكسات التي كان وقودها الكاز، وقد كان الحي الأوسط من مدينة "عفرين" هو الوحيد الذي يضاء وحتى ذلك الحي لم تكن كل زواياه مضاءة بل كان يُهمل شارع وُيضاء الثاني، وقد كان لتلك اللوكسات أو الفوانيس حوامل مثبتة على الجدران تتعلق بها بكرات معدنية يمرر منها كبل معدني ينتهي من الأعلى بخطاف لتعليق اللوكس، أما في الأسفل فقد كان للكبل علبة معدنية مثبتة في أسفل الجدار يلتف فيها الكبل حول نفسه أو يرخى حين يعلق به "اللوكس"، ولتعليق "اللوكس" أو نزعه كان يولج في تلك العلبة ذراع معدني /منويل/ يدور يميناً ويساراً لإرخاء الكبل وشده».

ويتابع بالقول: «مازلت أتذكر عندما كنت طفلاً كيف كان "حميد" /عامل البلدية/ يحمل اللوكسات الأربعة عند غروب الشمس من كل يوم وهي معبأة بالكاز من قبل "رشيد اللوكسجي" /نسبة إلى "اللوكس"/ ليعلقها في زوايا الأحياء المحددة لتبقى مضاءة حتى ينتهي الوقود التي بداخلها وحين كانت تنطفئ في آخر الليل كنا قد قطعنا شوطاً بعيداً في النوم، وفي كل صباح كان "حميد" يرخي الكبل لينزل المصباح المنطفئ ويأخذه إلى عند "رشيد اللوكسجي" ليملأها بالكاز من جديد استعداداً لليلة جديدة».

وأخيراً يقول: «هذه بالنسبة للشوارع في المدينة أما في البيوت فكان الناس يستعملون "مصباح الكاز" و"الفانوس الألماني" و"الفيسكة" و"اللوكس" و"المصباح اليدوي" /البيل/ الذي كان يعمل على البطاريات وذلك لإضاءة الطريق في الليل، فوسائل الإنارة التي كانت تضيء بيوت "عفرين" هي نفسها التي كانت تضيء البيوت في أنحاء الريف لأنّ "عفرين" نفسها لم تكن في تلك الفترة سوى قرية كبيرة».