هنا بين حجارة وأزقة هذا الحي الدافئ عاشوا وسكنوا فترة من الزمن، ثم خرجوا مدحورين يجرون خلفهم ذيول الذل والانكسار ليتركوا هذه الأرض والبيوت لأصحابها يتشاطرون مع بعضهم قصص الماضي وألق المستقبل، وما زال هذا الحي يحمل اسمهم حتى اليوم.

حي "تاتارلر" حي قديم من أحياء "حلب" الواقعة خارج الأسوار، يقع إلى الشرق من "باب الحديد" وينحصر بين حي "قاضي عسكر" وحي "قارلق" القديمين، وكلمة "تاتارلر" كلمة "تركية" تعني حي "التتار" أو "التتريون"، وقد سميت كذلك نسبة إلى "التتار" الذين سكنوا هذا الحي عندما جاؤوا لغزوا مدينة "حلب"، وذكر المؤرخ "الغزي" في كتابه "نهر الذهب في تاريخ حلب" أن سكان هذا الحي من "التتار" قد خرجوا منه بعد فتنة "تيمورلنك" عام /1401/ميلادية، كما كان يسكن في هذا الحي عدد من رعايا الطوائف الدينية وقد نزحوا عنها منذ أكثر من سبعين عاماً إلى حي "الجديدة"، وكانوا يسكنون في بوابة تحمل اسم "بوابة النصارى" وما زالت هذه البوابة إلى الآن وتحمل نفس الاسم، وكانت نسبتهم في الحي زهاء 15% من نسبة السكان* مما يدل على التآلف والتعايش الديني الذي عاشه ويعيشه سكان "حلب" حتى يومنا هذا، وذكر المؤرخ "الغزي" في نفس الكتاب أن متوسط عدد السكان في بيوت حي "تاتارلر" يتراوح بين سبعة أو ثمانية أشخاص في البيت الواحد.

إن أي موجز تاريخي لا يستطيع أن يعبر بشكل كامل عن تاريخ "حلب" التي تعد أقدم مدينة مأهولة في التاريخ

يتألف حي "تاتارلر" من عدد من الشوارع والزقاقات والبوابات من أهمها شارع "الطويبنة" وشارع "عرب" وجادة "عائشة بنت طلحة" وشارع "الحربلي"، ويعتبر حي "تاتارلر" من الأحياء السكنية ويعمل نسبة كبيرة من سكانه بتجارة الأغنام وربما سمي شارع "الطويبنة" شارع "التويبنة" نسبة لمتاجرة سكان الحي بالتبن المرتبطة بتجارة الأغنام كما ذكر بعض سكان الحي، وقد تضاءل سكان هذا الحي كما باقي أحياء "حلب" القديمة لأن غالبية السكان بدأت تنتقل إلى الأحياء الراقية المحيطة بالمدينة.

في هذا الحي القديم التقى eِِAleppo المختار "أحمد نعسان" الذي حدثنا عن تاريخ الحي وتسميته وسكانه فقال:

«حي "تاتارلر" حي قديم جداً يعود تاريخه إلى أكثر من 700عام، ويدل على ذلك وجود الجامع القديم في الحي الذي عمره حوالي سبعة قرون، فالبيت الذي أسكنه على سبيل المثال يعود تاريخه لحوالي 300سنة وكان ملكاً لجد جدي رحمهما الله، بالنسبة لتسمية الحي بهذا الاسم فقد جاءت من "التتار" الذين سكنوا هنا عندما جاؤوا لغزوا "حلب"، و"تاتارلر" كلمة "تركية" تدل على "التتار" واللاحقة (لر) تدل على الجمع في اللغة "التركية"، يسمى الحي شعبياً حي "تحت الدكان" ولا أحد يعرف بالضبط من أين جاءت هذه التسمية لأنها تسمية قديمة جداً، يضم الحي عدة شوارع وحارات نذكر منها حارة "الطويبنة" أو"التويبنة" وشارع "الحربلي" وشارع "عرب"، وقد نزح عن الحي نسبة كبيرة من سكانه ولا يتجاوز عدد الباقين فيه سوى حوالي ستة آلاف نسمة، يشتهر سكان الحي بتجارة الأغنام والجزارة بشكل رئيسي هذا بالإضافة إلى بعض المهن الحرة والمهن اليدوية، وقد بدأ سكان الحي حديثاً يتوجهون إلى العلم والدراسة بعد أن أهملوا هذه الناحية لفترة طويلة».

من بيوت تاتارلر القديمة.

وعن أهم العائلات التي سكنت الحي، تابع المختار "أحمد نعسان" قائلاً: «سكن في هذا الحي عدد كبير من العائلات، من أهم هذه العائلات التي سكنت "تاتارلر" عائلة "شويحنة"، عائلة "دادو"، عائلة "خرفان"، عائلة "فاعور"، عائلة "شومان"، عائلة "خطاب"، عائلة "جوقدار"، عائلة "عقاد"، عائلة "سيريس مصري" وعائلة "الزيات"، وهي كلها عائلات قديمة ومرموقة سكنت الحي خلال مراحل تاريخية مختلفة».

كما التقينا في هذا الحي العريق الشيخ "محمد جمال الشوكة" إمام وخطيب جامع الحي، الذي حدثنا أولاً عن تاريخ الحي وشوارعه فقال: «حي "تاتارلر" حي شعبي قديم يتفرع منه عدة زقاقات وشوارع من أهمها زقاق "طويبنة" الذي يشتهر بوجود حمام ملكة "زنوبيا" الذي يعود تاريخه لأكثر من /300/عام، وبجانبه تماماً مسجد يعود لنفس التاريخ يسمى جامع "الطويبنة"، يعود تاريخ الحي بشكل عام إلى "التتار" الذين سكنوا فيه خلال حملتهم على "حلب" منذ حوالي سبعة قرون مضت، وقد هاجر عدد كبير من سكان الحي إلى أحياء أخرى ولم يبق فيه سوى القلة القليلة من المحافظين وأصحاب الفطرة السليمة».

أحمد نعسان مختار حي تاتارلر.

وعن جامع الحي وتاريخه تابع الشيخ "محمد جمال الشوكه" حديثه قائلاً: «جامع الحي قديم جداً وكان يسمى قديماً جامع "تاتارلر" ويعود تاريخه إلى الفتوحات "الإسلامية" التي تلت جلاء "التتار" مباشرة، وقد أبدلنا اسم هذا الجامع إلى جامع "معروف البوشي" حيث يضم الجامع ضريح الشيخ والعالم الجليل "معروف البوشي" الذي توفي ودفن في الجامع سنة /1397هجري/، وقد جدد الجامع ووسع منذ حوالي (75)عام تقريباً».

كما التقينا الحاج "محمد إحسان نعساني" الذي حدثنا عن هذا الحي والعلاقات الاجتماعية السائدة فيه فقال: «يعتبر حينا من الأحياء المنغلقة على نفسها تقريباً،فالكل يعرف بعضه هنا، وتسود في حينٍ آخرعلاقات اجتماعية وطيدة ما زالت قوية رغم تغير الظروف وتغير أساليب الحياة، ونادراً ما نشهد خلافات بين سكان الحي، ويسود الهدوء معظم شوارع الحي الرئيسية منها والفرعية، وكنت أتمنى لو أن معظم سكانه بقوا فيه ولم يغادروه إلى أحياء أخرى، رغبة في العيش بأحياء حديثة وفخمة».

وأخيراً لا يسعنا إلا أن نقول كما قال العلامة "الفرنسي" "جان سوفاجيه": «إن أي موجز تاريخي لا يستطيع أن يعبر بشكل كامل عن تاريخ "حلب" التي تعد أقدم مدينة مأهولة في التاريخ».

  • عن كتاب أحياء حلب القديمة للدكتور "محمود حريتاني"
  • ** عن كتاب حلب دراسات تاريخية وجغرافية لـ "هاينتز غاوبه وأويغن فيرت".