لقد تمتعت أبواب مدينة "حلب" عبر التاريخ بأهمية بالغة وذلك في المجالات العسكرية والتجارية والعمرانية فهي من جهة صدّت هجمات الغزاة ومنعتهم من اقتحام المدينة ونهبها بسبب قوتها ومنعتها ومن جهة أخرى فتحت صدرها لاستقبال التجار وقوافلهم المحمّلة بمختلف أنواع البضائع ومن مختلف بقاع الأرض لتساهم في عملية ازدهار المدينة وتطورها، ومن أبواب "حلب" القديمة سنتحدث عن "باب قنسرين".

يقول مؤرخ "حلب" الشهير الشيخ "كامل الغزي" 1853 -1933 م في كتابه /نهر الذهب في تاريخ "حلب"/ ما يلي: «قالوا أولها /أي أول الأبواب/ مما يلي القبلة هو "باب قنسرين" وسُمي بذلك لأنه يُخرج منه إلى "قنسرين"* وهو قديم جدده "سيف الدولة" ثم الملك الناصر "يوسف ابن الملك العزيز" سنة 654 هجرية ونقل حجارته من "الناعورة" شرق "حلب" من برج كان بها من أبراج قصر "مسلمة بن عبد الملك" وقد نُقلت هذه الحجارة إلى القصر المذكور من "باب الرقة" وقبله من سور "سرمن رأى" وقبله من سور "عمورية"».

ولما بنى الملك الناصر "باب قنسرين" بنى عليه أبراجاً عظيمة ومرافق للأجناد وطواحين وأفران وجباباً للزيت وصهاريج للماء حتى صار كالقلعة المستقلة وكان يوجد قرب "باب قنسرين" بينه وبين "برج الغنم" مسجد يُقال له "مسجد النور" كان يتعبد فيه "ابن أبي نمير"

ويتابع"الغزي": «ولما بنى الملك الناصر "باب قنسرين" بنى عليه أبراجاً عظيمة ومرافق للأجناد وطواحين وأفران وجباباً للزيت وصهاريج للماء حتى صار كالقلعة المستقلة وكان يوجد قرب "باب قنسرين" بينه وبين "برج الغنم" مسجد يُقال له "مسجد النور" كان يتعبد فيه "ابن أبي نمير"».

كتاب الدكتورة بغداد عبد المنعم

وتقول الدكتورة "بغداد عبد المنعم" في كتابها /"حلب".. مدينة أم أغنية من مقام القلعة؟/ المطبوع في العام 2006 بمناسبة احتفالية "حلب" عاصمة الثقافة الإسلامية حول "باب قنسرين": «إذا عبرنا مجموعة طويلة من الأزقة أو كما يسميها "ابن شداد" بالدروب بدءً من "باب إنطاكية" ودخلنا في "حي الجلوم" ونفذنا من درب ضيقة وطويلة على استقامة واحدة لاح لنا من بعيد "جامع الكريمية" /"المحصب"/ بمدخله ومئذنته وحين نصله نكون قد دخلنا حي "باب قنسرين"».

وتتابع: «هي أربعة أبواب تعطي تلك الحصانة بانكسارات ممراتها المتوالية مما يعني عرقلة أكيدة لجيش مهاجم وكان ذلك شيء من تكنيك هذه العمارة العسكرية فحين تعبر الدروب بجدرانها العالية المتعانقة ستكون وسط أسرة كبيرة من التكوينات المعمارية التي كانت إلى زمن قريب متناغمة في أدائها وفي حضورها.. المساجد والمدارس والزوايا والبيمارستان وما تبقى من قساطل وحمامات وبيوت وساحات.

الأستاذ عبد الله حجار

لقد بقي "باب قنسرين" رغم أنّ المدينة التي يؤدي إليها اندثرت وبقيت الأحياء المحيطة به "قلعة الشريف" و"الجلوم" و"ساحة بزة" ومجموعة كبيرة من أسماء عماراته المشهورة ما زالت تُسمع وُترى أحياناً.. سترى "حمام الجوهري" و"حمام المالح" و"مسجد الطرسوسي" و"جامع الرومي" وبقايا القسطل الذي يحمل اسمه».

وللتعرّف أكثر على موقع "باب قنسرين" وتاريخه يقول الأستاذ "عبد الله حجار" وهو باحث أثري لموقع eSyria: «تاريخ "باب قنسرين" مشابه لتاريخ "باب النصر" وقد غُيّر موقعه عند ترميمه في العام 1256 ميلادية ولكن من المستحيل القول بأنّ الباب قد تعرض لانتقال كبير في موقعه وإلا لذكر المؤرخون ذلك لأهميته وسكوتهم عن ذكر الموضوع برهان على عدم حدوثه، أما بالنسبة للسور الحاوي على "باب قنسرين" فقد اختفى في قسمه الشرقي بينما يبدو أنّ قسمه الغربي قد انتقل إلى الأمام في القرن الثالث عشر الميلادي عند إعادة بناء الباب».

الدكتور محمود حريتاني

وأخيراً يتحدث الدكتور "محمود حريتاني" المدير السابق لآثار ومتاحف "سورية" الشمالية بالقول: «هو في جنوب مدينة "حلب" القديمة وهو بلا شك من أهم أبواب "حلب" في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين حيث كان يؤمن الاتصال التجاري لهذه المدينة مع القريب والبعيد وقد كان مؤرخو تلك الفترة يبدؤون به قائمة أبواب أسوار "حلب" ووصفها.

لقد كان هذا الباب حتى هجوم "المغول" وتهديمهم لقسم كبير من "حلب" في العام 1260 ميلادية يؤمن الاتصال مع ضاحية كبيرة هي ضاحية "الحاضر" والتي كانت تُعتبر مدينة ثانية مجهّزة بالوسائل الضرورية كلها حيث يذكر المؤرخ "ابن شداد" أنّ فيها 28 حماماً /مقابل 71 حماماً في أحياء المدينة ضمن الأسوار/ وخانات وأسواق وغير ذلك والقبائل العربية البداة و"التركمان" كانت لهم فيها مخيمات وأحياء وكذلك الأجانب من أصل غربي وكان يوجد فيه فندق للبنادقة في فترة حكم الأيوبيين».

ويتابع "الحريتاني": «إنّ المحور الذي يعبر "باب قنسرين" ويؤدي إلى باب جانبي للجامع الأموي الكبير كان يضم كثيراً من المدارس والمعابد والمساجد والحمامات وثلاثة خانات وفي فترة حكم "المماليك" كان يحتفظ بجزء من أهميته فقد بنى فيه الأمراء وعدد كبير من الأعيان قصورهم كما بُنيت فيه مؤسسات مثل "البيمارستان الأرغوني" في القرن الرابع عشر الميلادي وجامع آخر كبير بعيد قليلاً عنه وخانات خُصصت للفعاليات الصناعية أكثر منها للفعاليات التجارية في الفترة العثمانية مثل المصابن».

ويختم: «أما بالنسبة للأهمية السكنية لهذا الحي الذي يقع على محور "باب قنسرين" -المدينة فقد تضاءلت في فترة الحكم العثماني لأنّ القصور والمنازل الكبيرة التي بُنيت بعدد كبير في القرن السادس عشر الميلادي لم يعد يسكنها مؤسسوها خلال القرن الثامن عشر الميلادي فلقد تغير شكلها قليلاً وحُدّثت بعض الشيء ولم تعد لها أهميتها السابقة وأسباب ذلك تعود إلى أنّه منذ القرن السابع عشر الميلادي وحتى بداية القرن العشرين الميلادي أصبح "حي الفرافرة" الواقع في الشمال الغربي من القلعة وإلى الشرق من محور "باب النصر" هو المكان المفضل لسكن الأعيان وبخاصة العائلات المتصلة بالسلطة».

  • بلدة "قنسرين" هي اليوم مندثرة وكانت تقع جنوبي مدينة "حلب" بنحو 45 كم وبجوارها حالياً قرية "العيس".