توفر المياه في منطقة هي من الأسباب الرئيسية لنشوء التجمعات الأولى في تاريخ البشرية لأنها ضرورية في الزراعة والشرب والنظافة، ومدينة "حلب" لا يمكن استثناؤها من هذه القاعدة حيث يشير المؤرخون إلى أنها نشأت بالقرب من مصدر مياه هو "نهر قويق"...

ولكن المشكلة أنه ومنذ ذلك الاستيطان الأول لم يكن جريان "نهر قويق" منتظماً فقد كان يجف تقريباً في الصيف ولم يكن يكفي سكانها، أمام هذا الواقع نشأت فكرة جلب المياه إلى المدينة عبر الأقنية.

الأقنية الجديدة التي جرت في فترة الحكم الأيوبي من قبل الظاهر "غازي بن صلاح الدين" تبدأ بشبكة الأحياء الشمالية وأول قسطل للمياه كان خارج "باب الأربعين" وأول فرع يوصل المياه إلى قسطل ثان هو في "باب النصر" ثم يتجه إلى قسطلين آخرين في الغرب وكان هناك فرع آخر يتجه إلى "السويقة" بالقرب من المصبغة في الجنوب الغربي، وهناك فروع أخرى لهذه الشبكة كانت تصل وبشكل كثيف إلى أحياء شمالي القلعة والأسواق والجامع الكبير بينما تنحدر فروع أخرى إلى الأسواق والأحياء الجنوبية حتى "باب قنسرين"

في مدينة "حلب" توجد شبكة كبيرة من الأقنية والقساطل والسبلان التي كانت تُنقل المياه إليها من ينابيع قرية "حيلان" لتُوزّع على بيوت المدينة ومساجدها وفعالياتها الاقتصادية، وحول هذه القناة يقول الدكتور "محمود حريتاني" المدير السابق لآثار ومتاحف سورية الشمالية لموقع eAleppo:

ماء حيلان في قلعة حلب

«لقد وُجدت خزانات المياه تحت الأبنية القديمة وفي مرتفع القلعة حيث أُكتشف أول مستوطنة بشرية في "حلب"، منذ أن قامت مدينة "حلب" القديمة قبل حوالي 2400 عام لجأ سكانها الأقدمون إلى جلب المياه من مسافة بعيدة بواسطة أقنية وذلك من ينابيع قرية "حيلان" عُرفت بقناة حيلان أو القناية وكان ذلك الحل الوحيد لإرواء خمسين ألف نسمة من سكان "حلب" القديمة ضمن الأسوار.

إنّ نقل المياه من "حيلان" التي تبعد عن "حلب" مسافة 12 كم بواسطة أقنية كان عملاً رائعاً وفريداً فقد كانت مياه الينابيع تُجمّع في برك خاصة حتى يرتفع فيها منسوب المياه فيها إلى مستوى معين لتجري بعدها في الأقنية لمسافة أكثر من عشرة كيلومترات حيث كانت تجتاز خلال رحلتها الهضاب من مرتفعات ومنخفضات وتسقى البساتين، وحين تصل "حلب" كانت تدخل إليها من "باب القناة" ومن ثم يتم توزيعها على المدينة وكانت تُقام للأقنية أعمال صيانة دورية لتنظيفها وتنظيم جريانها».

باب القناة

وحول تاريخ إنشاء "قناة حيلان" يقول "حريتاني": «لدينا شيء ثابت وهام جداً وهو أنّ منطقة الأسواق في المدينة والتي تمتد من "باب إنطاكية" إلى القلعة ذات المخطط الشطرنجي والتي بُنيت في العام العهد اليوناني- السلوقي 312 قبل الميلاد لابد وأنها كانت تشرب الماء من "حيلان" حيث تنتشر الأقنية تحت الأرض والبيوت مثل الأوعية الشعرية في جسم الانسان وهذا ما تؤكده المكتشفات، أما بالنسبة للذي أنشأ القناة ومدّها إلى المدينة فلا وثيقة واضحة في أيدينا تشير إلى من بناها وهناك من يخطئ عندما ينسبها إلى "هيلانة" والدة الإمبراطور "قسطنطين" فذلك لا يتعدى وجود تشابه بين الاسمين/"هيلانة" و"حيلان"/، وأخيراً لا بد من القول بأنّ الأسلوب الذي أتى بمياه "حيلان" إلى "حلب" عُرف في تاريخ الشرق القديم منذ الألفين الثالثة والثانية قبل الميلاد».

ويتابع الدكتور "محمود" حديثه": «الأقنية الجديدة التي جرت في فترة الحكم الأيوبي من قبل الظاهر "غازي بن صلاح الدين" تبدأ بشبكة الأحياء الشمالية وأول قسطل للمياه كان خارج "باب الأربعين" وأول فرع يوصل المياه إلى قسطل ثان هو في "باب النصر" ثم يتجه إلى قسطلين آخرين في الغرب وكان هناك فرع آخر يتجه إلى "السويقة" بالقرب من المصبغة في الجنوب الغربي، وهناك فروع أخرى لهذه الشبكة كانت تصل وبشكل كثيف إلى أحياء شمالي القلعة والأسواق والجامع الكبير بينما تنحدر فروع أخرى إلى الأسواق والأحياء الجنوبية حتى "باب قنسرين"».

الدكتور محمود حريتاني

وحول "قناة حلب" /"قناة حيلان"/ يقول المؤرخ الحلبي الشيخ "كامل الغزي" 1853 -1933م في كتابه الشهير /نهر الذهب في تاريخ "حلب"/: «"قناة حلب" قديمة قبل الإسلام وسائقها من محلها غير معلوم إلا أنها كانت على صفة جدول يفيض من برك الخليل قرب قرية "حيلان" ويجري ماؤها إلى جهة "حلب" فيسقي البساتين وينتهي إلى "بانقوسا"(1) وما جاورها من المحلات التي كانت إذ ذاك بساتين فيفنى ماؤها فيها ثم إنّ الملكة "هيلانة" عملت مجراها على ما هو عليه الآن وساقت ماءها إلى مباني مدينة "حلب" فنُسبت إليها وعلى كل حال فقد اتفق مؤرخو "حلب" أنّ ماءها من عيون "إبراهيم الخليل" بالقرب من قرية "حيلان" وهذه العيون عبارة عن ثلاثة حفائر مختلفة المساحة تُعرف إحداها في زماننا ببركة "الشيخ خليل" والثانية ببركة "العبد" والثالثة ببركة "هيلانة" أو بركة الرشح».

ويضيف: «قال "ابن الشحنة" ما ملخصه أنّ "قناة حلب" في سنة 605 هجرية سُدّت طرقها لطول المدة ونقصت ينابيعها فاستحضر الملك الظاهر "غياث الدين غازي" صنّاعاً من مدينة "دمشق" وخرج معهم بنفسه وأطلعهم على أصلها وأمرهم بتعديل ما يخرج من ينبوعها وما يصل إلى "حلب" فتبيّن لهم أنّ ما يخرج من الينبوع مئة وستون إصبعاً وما يصل حلب عشرون فضمنوا له أن يكفوا بها جميع سكك "حلب" وشوارعها ودورها ومعابدها ويفضل(2) منها ماء وافر يصرف إلى بساتينها وأراضيها، فأمر الملك الظاهر أن تذرع(3) مسافتها من "حيلان" إلى "حلب" فكانت خمسة وثلاثين ألف ذراع نجاري فقسم الملك الظاهر هذه المسافة قطعاً وعيّن على كل قطعة منها أميراً معه صنّاع وفعلة (4) وحمل إليهم الكلس والزيت والحجارة والآجر فأُصلحت جميعها وأجراها إلى "حلب" في ثمانية وخمسين يوماً».

ويقول المؤرخ "محمد راغب الطباخ" 1877 -1951م في كتابه /إعلام النبلاء بتاريخ "حلب" الشهباء/ حول القناة بعد صيانتها من قبل الملك الظاهر "غازي" من "حيلان" وحتى "حلب": «ولما اتصلت بالبلد أمر /الملك "غازي/ ببناء القساطل وأجرى الماء فيها حتى عمت أكثر البلد واتخذت البرك في الدور ووصلت مياه القناة في أيامه إلى مواضع من البلد لم يُسمع بوصولها إليها حتى إنها سيقت إلى "الحاضر السليماني" /حي "الكلاسة" حالياً/ فقال "أبو المظفر محمد بن محمد الواسطي" المعروف بابن سنينير يمدحه لما فعل من هذه المكرمة التي عم نفعها وشاع:

روى ثرى "حلب" فعادت روضةً/ أنفاً وكانت قبله تشكو الظما

أحيا موات ترابها فكأنه / عيسى بإذن الله أحيا الأعظما

لا غرو إن أجرى القناة جداولاً / فلطالما بقناته أجرى الدما».

وأخيراً يقول الأخوين "الكسندر" و"باتريك راسل"(5) في كتابهما /تاريخ "حلب" الطبيعي في القرن الثامن عشر/ ترجمة "خالد الجبيلي": «يتم تزويد المدينة بالمياه من نبعين ينبعان بالقرب من "حيلان" وهي قرية تبعد حوالي ثمانية أميال إلى الشمال، وتُنقل المياه من هناك بواسطة قناة جر ويجري جزء منها على مستوى الأرض وفي بعض المناطق تكون مغطاة إلا أنّ معظمها يكون مكشوفاً، ويجري جزء آخر تحت الأرض ويتم تهويتها بواسطة فتحات للتهوية وبعد تعرجات عديدة تدخل القناة المدينة من الطرف الشمالي الشرقي وتُوزّع المياه بواسطة أنابيب فخارية ورصاصية إلى الأحواض العامة والحمامات والسراي والبيوت الخاصّة التي تدفع مبلغاً معيناً لقاء ذلك أما البيوت الواقعة في الأجزاء المرتفعة من المدينة فتحصل على المياه من السقائين الذين ينقلون المياه من الأحواض في قُربٍ من جلد الماعز تُعد خصيصاً لهذا الغرض ويحملونها على ظهور الخيل أو على أكتافهم».

(1)- "بانقوسا": من أحياء "حلب" القديمة.

(2)- يفضل: يبقى.

(3)- تُذرّع: تقاس المسافة بواسطة الذراع، ففي تلك الأيام لم يكن القياس بالمتر معروفاً.

(4)- فعلة: عمال.

(5)- الأخوين "راسل" هما "الكسندر" و"باتريك راسل": طبيبان بريطانيان عاشا في "حلب" كطبيبين للجالية التجارية البريطانية في "حلب" حوالي منتصف القرن الثامن عشر.