من الطبيعي أن تترك الحضارات التي تمر على أي بلد آثارا لها ودلالات تبقى شاهدة على تلك الحضارة وزمانها، وكثيرة هي القلاع والحصون والمعالم الأثرية التي مازالت باقية شاهقة توصل الناضرين بحضارات قد يصل عمرها إلى عشرات الآلاف من السنين.

لكن أكثر ما يحزن هو أن تندثر كل هذه المعالم والآثار ولا يبقى منها على سطح الأرض إلا القليل. وهذا ما حصل مع مدينة "منبج" الضاربة في عرض التاريخ قدما وحضارة، هذه المدينة التي شاء لها الله أن تندثر معظم معالمها الأثرية تحت التراب وذلك بسبب الزلازل التي تعرضت لها المدينة في تاريخها.

بنيت قلعة "منبج" على مرتفع ترابي يسمى بلغة علماء الآثار "أكربول" بغرض دافعي امني وهذا تقليد سائد في العمران أنذالك. إذا كان على البناة إحداث مرتفع ومن ثم البناء عليه..

فحتى قلعة "منبج" الشاهقة لم يبق من معالمها إلا حجارة تتناثر هنا وهناك، ويتناقلها السكان ليبنوا منها بيوتا. ولتبقى أخبار القلعة فقط فيما تحدث به المؤرخون والرحالة الذين مروا بها. ويضاف إلى قلعة "منبج" سورها الذي لم يبقى منه أيضا إلا بعض الحجارة. (تظهرها الصورة الرئيسية)

الأستاذ حسين علي البكار

ولنعيد إلى الذاكرة ما تناقله المؤرخون والرحالة عن هذه القلعة. التقينا في eAleppo بالأستاذ "حسين علي البكار" الباحث في تاريخ "منبج"، حيث حدثنا عن القلعة قائلاً: «مابقى من هذه القلعة هو اسمها وجثتها الهامدة الرابضة وسط المدينة، تشكل حيا اسمه "حي التبة" وهي هضبة ردمية عالية بني فوقها خزان للمياه لازال ظاهرا للعيان.

وبقي أيضا من هذه القلعة ما أورده الكتّاب وغيرهم من الرحالة والمؤرخين. فقلعة "منبج" محاطة بواد يلفها من جميع الجهات وهو الخندق الذي يؤمن لها جزءا من الحماية. وقد أرجع المؤرخون تاريخ القلعة إلى النهضة العمرانية لـ "سلوقس"، حيث كانت القلعة مبنية داخل السور ولم يذكر للقلعة بناء، وقد نسبت إلى القلاع السلطانية. غير أن البلاد شهدت مثل هذه القلاع في الحقبة السلوقية، وكانت تسمى " الاكروبولس" إي المدينة المصغرة..».

وعن المدينة المصغرة وفوائدها أنذالك يتحدث الأستاذ البكار، قائلاً: «المدينة المصغرة هي بمثابة مدينة داخل المدينة، وهي قلعة عسكرية تبنى داخل السور عادة، يحتمي بها الأهالي إذا حوصرت المدينة أو تقهقرت أسوارها، وفيها مؤن من الطعام والشراب مايكفي الأهالي عدة أيام..».

وعن الهدف من بناء قلعة "منبج" يضيف قائلاً: «بنيت قلعة "منبج" على مرتفع ترابي يسمى بلغة علماء الآثار "أكربول" بغرض دافعي امني وهذا تقليد سائد في العمران أنذالك. إذا كان على البناة إحداث مرتفع ومن ثم البناء عليه..».

أما آخر أيام القلعة فيستعرضها "البكار" قائلا: «عندما زار "ابن جبير" مدينة "منبج" سنة 579 للهجرة، قال عن قلعتها: (لها قلعة حصينة.. في جوفها تنقطع عنها وتنحاز عنها). ولكن وبعد 19 سنة من زيارة "ابن جبير" إلى "منبج" ومشاهدته القلعة دخلت القلعة مقبرة التاريخ. حيث تذكر بعض المصادر التاريخية انه في عام 598 هـ خرب الملك "الظاهر" قلعة "منبج" خوفا من انتزاعها منه. وهذا من الغريب حقا أن تخرب قلعة خشية انتزاعها وتترك مدينة كاملة عرضة للانتزاع!!، والقلعة هي التي تحمي نفسها بمن فيها من الانتزاع.

ويقال أيضا أن "تيمورلنك" خربها وهو في طريقه إلى "حلب" وظلت مخربة حتى إلى الآن، وما لحق بالقلعة لحق بالسور الذي دثر بدوره..».

إذا غابت قلعة "منبج" حصنها المنيع بعد أن عصمت أهلها سنينا من الغزو والاعتداء فغابت عنهم آنذاك، وهي تغيب اليوم عنا بعد أن لم يبقى من آثارها شيء، ما يغيب عنا بدوره معرفة شيء من فنون بنائها وهندسته الإنشائية والدفاعية..