في حديقة "المتحف الوطني" بمدينة "حلب" يوجد سلسبيل جميل غطت واجهته بضع قطع من تربيعات القاشاني الملونة بالأزرق والأبيض، والكثيرون من زوّار المتحف والمارين بجواره يتساءلون من أين جاء هذا السلسبيل إلى حديقة المتحف وما قصته؟

هذا السلسبيل يسميه الباحث الأثري المهندس "عبد الله حجار" قسطل الرمضانية وعنه تحدث لموقع eAleppo: «"قسطل الرمضانية" قام بإنشائه التاجر "برد بك" وذلك في العام 890 هجرية 1485 ميلادية وذلك أيام "ازدمر" المملوكي حاكم "حلب" وكان البناء الوحيد في المنطقة مع تكية الشيخ "أبو بكر الوفائي" وأشجار السرو كما تبيّنه بطاقة سياحية صُوّرت أوائل القرن الماضي وقد نُقل هذا القسطل إلى حديقة "المتحف الوطني" بحلب».

يمكن القول وبشكل أكيد بأنّ السبيل الموجود في حديقة "المتحف الوطني" بحلب هو تابع لدار جنبلاط التي شغلت فترة بالمدرسة الغافقية والذي أنشأه في العام 1773م هو "أحمد بن أبي السعود الكواكبي" منشئ "المدرسة الكواكبية"

الدكتور "محمود حريتاني" المدير السابق لآثار ومتاحف سورية الشمالية يقول عن القسطل: «في العام 890 هجرية 1485 ميلادية بنى "برد بك" "قسطل الرمضانية" وهو الذي قام بإيصال قناة "حلب" إلى جامع "قسطل الحرمي" وأجرى له مياه القناة من فرع تكية "بابا بيرم" والتي هُدمت مؤخراً، أما "قسطل الرمضانية" فقد بقي حتى أوائل القرن العشرين حيث يصفه المؤرخ الحلبي "كامل الغزي" بأنّ فيه عواميد صغيرة وله إطارات محفورة وشعارات ومكتوبات، وقد نُقل القسطل وبني في أرض سوق الأحد ومكانه اليوم حديقة ميسلون ثم هُدم ثانية ونُقلت بقاياه لتنضم إلى الأنقاض المتراكمة في مستودعات "المتحف الوطني" بحلب حسبما ذكره الدكتور "أسعد طلس" في كتابه /الآثار الإسلامية والتاريخية في "حلب"/».

جانب من السلسبيل

ولكن للدكتورة "لمياء الجاسر" وهي مهندسة معمارية وباحثة في تاريخ العمارة الإسلامية رأي آخر فهي تعتبر أنّ السلسبيل /القسطل/ يعود إلى "قصر جنبلاط" وقد توصلت إلى ذلك بعد قيامها بدراسات وتحقيقات حول الموضوع، تقول الدكتورة "لمياء": «بالعودة إلى المراجع التاريخية نرى في كتاب /معالم "حلب" الأثرية/ لـ"عبد الله حجار" أنّه "قسطل الرمضانية" الذي أنشأه التاجر "برد بك" في العام 1485م ونُقل إلى حديقة "المتحف الوطني" بحلب، كما جاء ما يؤكد ذلك في كتاب /العمارة العربية الإسلامية وخصائصها وآثارها في سورية/ لـ"عبد القادر الريحاوي"، ولكن معلوماتي تؤكد أنّ بلاطات القيشاني لم تُستعمل في "حلب" خلال الفترة المملوكية على الإطلاق، كما أنّ النموذج الذي استعمل في هذا السلسبيل مماثل لذلك الذي استعمل في كثير من آثار مدينة "حلب" التي تعود إلى الفترة العثمانية مثل غرفة الضريح في "الجامع الأموي الكبير" و"التكية الخسروية" و"بيت جنبلاط" وغيرها.

خلال دراستي وبحثي حول السلسبيل ولكي أقطع الشك باليقين طلبت من الموظفة المسؤولة في مديرية المتاحف والآثار- وقد أكدت بأنه لا يوجد أي سلسبيل أو سبيل في حديقة "المتحف الوطني" بحلب غير هذا السلسبيل- بأن تقدم لي معروفاً وتنظر في سجلات المديرية فجاء الجواب كالتالي: /السلسبيل هو سلسبيل "مدرسة الكواكبي" من القرن التاسع عشر/ ولكني اندهشت حيث إنني درست هذه المدرسة ضمن كتابي /مدارس "حلب" الأثرية/ وهي مدرسة صغيرة تعود إلى القرن الثامن عشر وتتكون من باحة صغيرة وفي جنوبها قبلية وفي شرقيها غرفة صغيرة وعلى طرفي الباحة الشرقي والغربي مصطبتان بُنيت فوق الشرقية منهما غرفة خشبية، والسؤال هو أين موضع هذا السلسبيل الفخم والجميل في تلك المدرسة الصغيرة والمتواضعة؟».

القاشاني في السلسبيل

وتتابع الدكتورة "الجاسر": «ذات يوم حيث كنت أراجع تراجم آل الكواكبي عند المؤرخ الحلبي "محمد راغب الطباخ" وفي ترجمة "أحمد بن أبي السعود الكواكبي" المتوفى 1782م جاء فيها: "من آثاره السبيل الذي أنشأه سنة 1773م بجانب داره المعروفة بدار "ابن عبد السلام" كما أنّ السبيل يعرف بهذا الاسم وهذه الدار من الدور العظام بناها "جنبلاط" في محلة "بندرة الإسلام" واشتراها "أبي السعود الكواكبي" سنة 1756م وقد أكثر الشعراء في مدح هذه الدار ومدح السبيل الذي أنشأه فيها ومدح صاحبها وكانت تُنظم له القصائد الطويلة كلما بنى شيئاً جديداً في هذه الدار، وقد حاول الانكليز حينما كانوا محتلين لمدينة "حلب" سنة 1919م مع العساكر الشريفية الفيصلية أن يأخذوا هذا السبيل البديع فلم يسلمه لهم بنو "الحاج حسن بيك" الذين كانوا يقطنون الدار حينها ولكنهم لم يتخلصوا من ذلك إلا بواسطة كسره فتشوّه بذلك وذهب رونقه وهو ملقى /سنة 1924م/ في جنينة الدار"».

وتتابع الدكتورة "لمياء" الكلام: «هنا قلت في نفسي لا بد أنّ هذا السبيل هو ضالتي، إنّه هو السبيل الموجود في حديقة المتحف، فالقاشاني الذي يغطيه هو من نفس القاشاني المستعمل في إيواني "دار جنبلاط" وهو منسجم مع فخامة هذه الدار وجمالها وليس مع "المدرسة الكواكبية" /كما هو وارد في سجلات مديرية المتاحف والآثار/».

القاشاني في إيوان قصر جنبلاط في حلب

وتضيف: «ذكر المؤرخ الحلبي الشيخ "كامل الغزي" ضمن أحداث العام 1918م ذهابه مع الجنرال "اللنبي" إلى "دار جنبلاط" وسرور الجنرال برؤية الإيوان سروراً زائداً، كما ذكر أيضاً رؤيته حجر سلسبيل مدفون بعضه في الأرض فيه بدائع الصنعة ما يشهد للماضين بإتقان النقوش ومهارة الهندسة المعمارية، إنّ "دار جنبلاط" واسعة الصحن جداً وفيها حديقة وحوض كبير يقول عنه "الطباخ" بأنه أكبر حوض في دور "حلب" وفيه إيوان عظيم الارتفاع وصدر هذا الإيوان جميعه مبلّط بالقاشاني».

وعن موقع السلسبيل في الدار تقول: «في الجهة الشمالية من الدار إيوان صغير يُصعد إليه بدرج من الطرفين وهو مبلّط في أطرافه الثلاثة ببلاط القاشاني وفي وسط الجدار الشمالي كان يقوم السلسبيل الموجود في حديقة "المتحف الوطني" بحلب وينحدر الماء من هذا السلسبيل ليصل إلى سلسبيل آخر أمام استراحة الدرجين ليصل بعدها إلى البركة في وسط الباحة والسلسبيل الأخير مكسور وهو مكوّن من قطعة حجرية واحدة وقد جُمعت أجزاؤه مؤخراً على أرضية إحدى الغرف في محاولة لإصلاحه وهو مشابه للسلسبيل الأول /الموجود في حديقة المتحف/ من حيث التصميم ولكنه دون القاشاني».

وعن سبب وصول تسمية سلسبيل "مدرسة الكواكبي" إلى سجلات مديرية الآثار تقول "الجاسر": «لقد شغلت "دار جنبلاط" منذ فترة بالمدرسة الغافقية وذلك بعد هدم "المدرسة الغافقية" الكائنة في السويقة وبناء أبنية حديثة مكانها ومنشئ سبيل "ابن عبد السلام" "أحمد بن أبي السعود الكواكبي" هو أيضاً منشئ "المدرسة الكواكبية" وهكذا اختزلت المعلومات في معلومة واحدة هي سبيل "مدرسة الكواكبي"».

وفي الختام تقول الدكتورة "لمياء الجاسر" حول السلسبيل: «يمكن القول وبشكل أكيد بأنّ السبيل الموجود في حديقة "المتحف الوطني" بحلب هو تابع لدار جنبلاط التي شغلت فترة بالمدرسة الغافقية والذي أنشأه في العام 1773م هو "أحمد بن أبي السعود الكواكبي" منشئ "المدرسة الكواكبية"».