للنقود أهمية كبيرة في حياة الشعوب والأمم منذ أقدم العصور التاريخية باعتبارها تشكل العنصر الأساسي في عملية التطور الاقتصادي والاجتماعي والعسكري والعمراني وغيرها من المجالات، وفي "حلب" وريفها تم صك النقود في مختلف الفترات التاريخية وأهمها الفترة الهلنستية والرومانية.

لمعرفة المزيد حول نقود "حلب" وريفها (التي كان يطلق عليها اسم "السيروستيكا") في تلك الفترة الزمنية من تاريخها التقى موقع eAleppo الدكتور "خالد كيوان"* الذي بدأ حديثه بتحديد الإطار الجغرافي لمنطقة "السيروستيكا" بالقول: «تقع دائرة "السيروستيكا" Cyrrhestica في الجزء الشمالي من سورية بين "نهر الفرات" و"جبال الأمانوس" وتضم المدن التالية: "بيرويا"– "حلب" Beroea، "سيرهوس"– "النبي هوري" Cyrrhus، "هيرابوليس"– "منبج" Hiérapolis-Membij، "فلافيا خالكيس"– "قنسرين"».

تقع دائرة "السيروستيكا" Cyrrhestica في الجزء الشمالي من سورية بين "نهر الفرات" و"جبال الأمانوس" وتضم المدن التالية: "بيرويا"– "حلب" Beroea، "سيرهوس"– "النبي هوري" Cyrrhus، "هيرابوليس"– "منبج" Hiérapolis-Membij، "فلافيا خالكيس"– "قنسرين"

وتابع حديثه حول الإصدارات النقدية في تلك الدائرة قائلاً: «بالنسبة للإصدار النقدي لمدن "السيروستيكا" Cyrrhestica فقد أشارت الدراسات الجارية على هذه الدائرة إلى وجود فارق تاريخي من ناحية بدء الإصدار النقدي، إذ نلاحظ أن أقدم دار ضرب فيها هي "هيرابوليس"– "منبج" Membij- Hiérapolis التي باشرت إصدارها النقود في فترة سبقت بقليل احتلال "الإسكندر الكبير" لسورية، ثم توقفت فترةً من الزمن لتعاود عملية الإنتاج في العصر السلوقي تحت حكم "أنطيوخوس الرابع" الملقب بأبيفانس 175 -164 قبل الميلاد في حين بدأت "سيرهوس"– "النبي هوري" Cyrrhus تنتج النقود تحت حكم "الكسندر بالاس" 150 -146 قبل الميلاد، بينما لم تنتج "بيرويا"– "حلب" Beroea نقوداً قبل العصر الروماني، ويبدو أن بداية إنتاج هذه الدار للنقود في العصر الروماني كان في عهد الإمبراطور "تراجانوس" الذي منح مدن هذه الدائرة حق امتياز الإصدار النقدي من العملات البرونزية بهدف تنشيط المنطقة اقتصادياً وإعادة الحياة لها وتلاه امتياز الإمبراطور "كركلا "-"ماركوس أوريلوس أنطونيوس" الذي أغدق عليهم بأن رفّعهم إلى مرتبة المستعمرة الرومانية بين عامي 215 -217 ميلادية ومنحهم حق إصدار نقود فضية من وحدة التيترادراخما التي تتراوح أوزانها بين 10,50غ -14غ، وعُرفت باسم تيترادراخما النسر السورية لأنه غلب على مركز الظهر نقش النسر السوري- العقاب».

نقود تراجانوس

وحول المسكوكات التي تم إصدارها في "السيروستيكا" قال: «هناك مسكوكات "بيرويا"– "حلب" Beroea التي لم تكن تمتلك إصدارات نقدية قبل العصر الإمبراطوري فقد منحها الإمبراطور "تراجانوس" هذا الحق بإصدار سلسلة من النقود البرونزية التي استمرت حتى عهد الإمبراطور "أنطونينوس بيوس" (التقي) وتميزت بحملها اسم "بيرويا"– "حلب" على مركز الظهر منقوشاً ضمن إكليل من أوراق الغار بالكتابة الإغريقية التالية B POIAIWN.

مسكوكات "سيرهوس" البرونزية– "النبي هوري" Cyrrhus الواقعة إلى شمال غرب مدينة "حلب" بحوالي 69 -70 كم، وقد اشتهرت بعبادة الإله "زيوس كاتايباتوس" (الصاعقة) في الفترة السلوقية ويمثل عادة بهيئة طائر النسر يقبض بمخالبه على صاعقة وقد بني له معبد كبير فيها، لقد باشرت "سيرهوس" Cyrrhus عملية إنتاجها النقدي في العصر السلوقي، وقد بيّنت دراسة نقودها بأنّ إنتاجها بدأ في عهد "الكسندر بالاس" الذي حكم بين عامي 150 ـ 146 قبل الميلاد ومن نماذجها المؤرخة إلى عهد "بالاس" قطعة نقدية حملت على مركز الظهر اسم "سيرهوس" بالكتابة الإغريقية KYPPHTN، كما حملت على مركز الظهر نقش الإله "زيوس" يمسك بغصن نباتي، وهنالك نماذج أخرى من العصر السلوقي تمثل الربة "أثينا بارثينون" ربة الحرب والسلام واقفة تمسك بيدها تمثال "نايكي" (فيكتوريا) ربة النصر المجنحة.

نقود سيرهوس

أما عن نقودها في العصر الإمبراطوري فتؤرخ إلى عهد "تراجانوس" وحتى عهد الإمبراطور "فيليب العربي" واشتهرت بنقشها صورة الإله "زيوس كاتايباتوس"، كما أصدرت نقوداً أخرى تميزت بحملها على مركز الظهر نقش إكليل نباتي نُقش بوسطه اسم "سيرهوس" مع إلهها "زيوس كاتايباتوس" بالكتابة الإغريقية KYPPHCTWN KATAITOC .

ومن أهم القطع النقدية البرونزية، نقد مؤرخ إلى عهد "كركلا" حمل على مركز الظهر نقش واجهة معبد سداسي الأعمدة بوسطه نقش الإله "زيوس كاتايباتوس" تحيط بالمشهد المركزي العبارة الإغريقية التي تذكر اسم "سيرهوس" وإلهها "زيوس كاتايباتوس" KYPPHCTWN KATAITOC.

الدكتور خالد كيوان

وهنا نشير إلى أنّ بداية تمثيل واجهات المعابد على النقود السورية تعود إلى القرن الثاني الميلادي وقد انتشرت بكثرة على نقود النصف الأول من القرن الثالث الميلادي».

وتابع: «مسكوكات "هيرابوليس"– "منبج" Membij –Hieropolis التي يرد اسمها القديم "منبج" Membij وقد استبدلها "سلوقوس نيكاتور" بهيرابوليس والتي تعني /المدينة المقدسة/، وبنى فيها معبداً لربة المدينة الكبرى "أتارجاتيس"– "عشتار"، أما عن وضع كهنة "هيرابوليس" فيشير "جان بابلون" في كتابه /إمبراطوريات سوريات/: هكذا كان الكهنة في "هيرابوليس"– "منبج" و"جبيل" يجمعون في شخصهم بتفويض دائم من الإله الذي اندمجوا فيه السلطة السياسية والدينية الكهنوتية، وكان كاهن "هيرابوليس" الأكبر يتغير في كل عام في عصر "ماركوس أوريلوس"، ويضيف: كان الكاهن يرتدي الأردية الأرجوانية ويعتمر التاج، لكن لم يكن يسك النقود باسمه وإنما باسم الربة "أتارجاتيس" السورية، وفي زمن "الإسكندر الأكبر" كان الملك "عبد حدد" في "منبج يبدو" على النقود في شكل كاهن يرتدي ثوباً كهنوتياً ويقدم البخور على الهيكل ممسكاً بيده مروحة طقسية.

ونضيف بأنّ الإله "حدد" قد ظهر على النقود الفضية من وحدة الديدراخما بوجه جانبي يساري وقد نُقش خلف رأسه الشمس والقمر وأمام وجهه نقش آرامي يذكر اسم الملك "عبد حدد" ويظهر على الوجه الآخر الملك الفارسي راكباً في عربة يقودها سائس وتجرها الخيول وذلك على غرار عادة ملك ملوك الفرس المنقوشة صورهم على نقود صيدون على الساحل الفينيقي، وتؤرخ هذه القطعة من العام 340 -332 قبل الميلاد.

لقد أصدرت "هيرابوليس" في العصر السلوقي نقوداً فضية وبرونزية بدءً من "أنطيوخوس الرابع" وتميزت بحملها بعض الشارات السلوقية حيث دعيت هذه النقود بالريفية Municipal وحمل جزء منها أسماء الملوك المحليين كما بدأت مدن دائرة "السيروستيكا"- كما أسلفنا الذكر- بعملية الإنتاج النقدي في العصر الروماني في ظل حكم الإمبراطور "تراجانوس".

وبالنسبة إلى "فلافيا خالكيس"– "قنسرين" والتي تقع بالقرب من "حلب" فتعود نقودها إلى عهد "تراجانوس" وحتى "لوسيوس فيروس" وقد حملتْ اسمها بالكتابة اليونانيّة نحو XAKW ومن نماذجها إكليل نباتي في وسطه اسم "فلافيا خالكيس" أو الكتابة التالية H CC التي تشير إلى عبادة إله الشمس "هيليوس".

وأخيراً "جينداروس" وهي عبارة عن تلّ أثري يقع إلى الشمال الغربي من سورية في سهل "عفرين" وقد نقبت فيه بعثة ألمانية ثم تابعت أعمال الحفر والتنقيب البعثة السورية الوطنية بقيادة الدكتور "عمار عبد الرحمن" من المديرية العامة للآثار والمتاحف وقد تمّ الكشف فيه عن طبقات تعود للعصر الكلاسيكي بفتراته الهلنستية والرومانية والبيزنطية وعن آثار هامة لمنشآت معمارية ولقى كالسرج الفخارية والنقود وطبعات الأختام.

لقد عثر في "جينداروس"- "جنديرس" على نقود برونزية وفضية صُنّفت وفق الشكل التالي: نقود "الإسكندر الكبير" من النوع البرونزي الصغير، نقود سلوقيّة بعضها يعود لسلوقس و"أنطيوخوس السادس" والسابع، نقود مستقلة بعضها ضرب في إنطاكية حمل في مركز الوجه رأس الإله "زيوس" وفي مركز الظهر الإله "زيوس" جالساً على العرش، كما حمل بعضها في مركز الوجه رأس الربة "تيكة" وعلى الوجه الآخر صورة مذبح، ونقود رومانيّة برونزية من عهد "نيرون" صادرة في إنطاكية، وأخرى من عهود "تراجانوس" و"هادريانوس" و"جورديانوس" تميزت بحملها الحرفان SC ومن ثم "تريبينيوس غالوس"، ودنانير فضيّة ("أنطونينيانوس") من عهود "فاليريانوس" و"غاليانوس" و"كلاوديوس" و"وهب اللاتوس" و"أورليانوس" و"ديوقليتيانوس"، وفلوس رومانيّة متأخّرة وبيزنطيّة من عهود ليسينيوس و"قسطنطين" و"فالانتينوس" و"تيودوسيوس الأوّل" وابنه "هونوريوس" و"جوستينوس"، وكنز النقود الفضيّة الذي اكتشف في 1999م ضمن قدر فخاري وداخله 123 نقداً 97 تيترادراخما و25 ديناريوس وقطعة واحدة أنطونينيانوس».

وختم: «إنّ كنز "جينداروس"– "جنديرس" الفضي الذي عثر عليه في تلها الأثري يعود إلى القرن الثالث الميلادي وتبين دراسته بأنّ النقود التي احتواها تعود لإصدارات مدن في فلسطين وسورية وجزء منها من شمالي العراق وقد تم جلبها إلى "جنديرس" مع تحركات الجيوش الرومانية».

  • الدكتور "خالد كيوان" هو أستاذ المسكوكات القديمة بقسم الآثار بجامعة "حلب" وموظف سابق في المديرية العامة للآثار والمتاحف، له عدة أبحاث منشورة بالعربية والأجنبية في دوريات ومجلات علمية بالآثار والحوليات الأثرية العربية السورية ومجلة مهد الحضارات وعاديات "حلب" الفصلية والكتاب السنوي وشارك في عدة ندوات دولية في سورية، له كتاب /إنتاج المسكوكات وتداولها بدمشق وريفها بالفترة الرومانية/ من منشورات وزارة الثقافة 2010م وكتاب قيد النشر بعنوان /المسكوكات القديمة/ بالتشارك مع الدكتور "زياد سلهب" وقد أعد القسم الأكبر منه وهو من منشورات وزارة التعليم العالي -قسم الآثار جامعة دمشق 2011م.