ظهرت بدمشق في أوائل الأربعينيات من القرن الماضي ظاهرة الندوات الأدبية التي تعقد في المقاهي العامة، وهي تضم جنباً إلى جنب أستاذ الجامعة، الطبيب، الموظف العادي، المهندس، الطالب الجامعي والممثل على حد سواء، حيث شهدت هذه المقاهي أشهر الندوات الأدبية التي شهدتها دمشق وخاصة في مطلع الخمسينيات.

موقع "eSyria" بتاريخ 2/9/2010 التقى التقى بالباحث التاريخي والإعلامي الأستاذ "محمد مروان" ليحدثنا عن الندوات الأدبية التي كانت تقام في مقاهي "دمشق" بحضور أدباء وفنانين مشهورين، وبداية حديثه كان عن مقهى "البرازيل"، فيقول: «كان مقهى "البرازيل" صغيراً ويقع على الزاوية المقابلة لمقهى "الهافانا" الحالي، وهو عبارة عن غرفة صغيرة نسبياً قسّمت إلى قسمين، قسم لخدمة الزبائن وقسم للحضور تنتشر فيه أربع أو خمس طاولات، وزبائن هذا المقهى هم النخبة من رجال السياسة، والأدب في تلك الفترة، كما كان مجلس تجمع هام للصحفيين الذين كانوا يقفون على آخر الأخبار من رواد المقهى، ونظراً لضيق المقهى وصغره فقد ولّد هذا الحيّز المكاني علاقات تعارف بين رواده ووطّد علاقات المعرفة والصداقة بين زبائنه الأساسيين».

المقهى عبارة عن برلمان ثاني لتبادل الأفكار، فثمة نقاشات حادة تحدث أحياناً بين بعض المثقفين وهذا يضفي طابعاً ليبرالياً على المقهى، كما أن دخول العنصر النسائي للمقهى حالياً أضفى عليه نكهة خاصة ونوعاً من الحداثة التي نفتقدها في أغلب المقاهي الدمشقية

عن رواد هذا المقهى يقول "مروان": «من رواد هذا المقهى "نحاة قصاب حسن" وهو محامي، رسام كاريكاتير، موسيقي وشاعر، وصاحب نكتة جميلة، محدث بارع وجليس أنيس، كان "نجاة قصاب حسن" في تلك المرحلة يكتب زاوية صحفية لاذعة في جريدة الرأي العام، لصاحبها "أحمد عسة"، وكانت تلك الزاوية تحتل الجانب الأيسر من أسفل الصفحة الأولى، ويوقعها باسم مستعار هو "فصيح"، وقد كتب تلك الزاوية فيما بعد الشاعر "محمد الماغوط"، ومن رواد المقهى "البرازيل" أيضاً "عبد الغني العطري" صاحب مجلة "الدنيا" الصحفي والأديب الذي سبق وأن أصدر مجلة "الصباح" وكان في التاسعة من عمره عندما أصدرها، كان "عبد الغني" يشجع الأدباء الشباب، وقد أفسح المجال في مجلة "الدنيا" لـ"صلاح دهني" الذي كان يكتب النقد السينمائي، وللشاب الأديب "جان الكسان" الذي كان ينشر القصة القصيرة، وللمخرج السينامئي الشهير "مصطفى العقاد" الذي كان يراسل المجلة من "هوليود"».

الهافانا قديماً

يتابع: «كما كان من رواد المقهى "البرازيل" الأديب الراحل الدكتور "عبد السلام العجيلي" ورؤساء تحرير الصحف جميعاً "نصوح بابيل، بكري المرادي، أحمد عسة، نصوح الدوجي، وآخرون"، وكذلك الصحفيون "سعيد الجزائري، الدكتور جودت الرّكابي، صلاح الدين المحايري"، وكان يتردد على مقهى البرازيل" الأديب "فؤاد الشايب" الذي شغل منصب مدير الدعاية والأنباء، و"نشأت التغلبي" الذي عمل مذيعاً في إذاعة "دمشق"، ثم أصبح صحفياً مرموقاً، وكانت المناقشات في مقهى "البرازيل" سياسية أكثر منها أدبية أو فنية».

أما مقهى "الهافانا" فيحدثنا "مراد" عن الندوات الأدبية التي كانت تقام هناك بحضور أدباء مهمين، فيقول: «يعد مقهى "الهافانا" من أشهر المقاهي الأدبية بدمشق، وهو مازال في موقعه إلى اليوم، وكان يشكل فعلاً ظاهرة الندوة الأدبية والسياسية معاً، وكان قرب هذا المقهى من إدارة جريدة "النقاد" الأسبوعية التي كان يشرف عليها الأديب الراحل "سعيد الجزائري" والصحفي "ممتاز الركابي" يجعل من هذا المقهى نقطة تجمع والتقاء لكثير من الأدباء والصحفيين، ومن أبرز الكتّاب الذين اكتسبوا الشهرة عن طريق مجلة "النقاد" الأديب الدكتور "شاكر مصطفى" بعد أن انتقل من التدريس في محافظة "درعا" واستقر في "دمشق"، وكان الأستاذ "الجزائري" كثيراً ما يصحح بروفات المجلة وهو يحتسي فنان القهوة في "الهافانا" يعاونه في ذلك الأديب "محمد حيد" أو الأستاذ "غسان الرفاعي"، وقد جرت لهذا الأخير قصة كانت مسار التندر فقد بدأ "غسان الرفاعي" بنشر سلسلة من القصص القصيرة المترجمة عن "وليم سارويان" في مجلة "النقاد"، وبعد فترة زمنية تم الاكتشاف بأن تلك القصص كانت من تأليف "غسان الرفاعي" الذي تسلح باسم "سارويان" لنشر تلك القصص».

النجفي في مقاهي دمشق

أما عن رواد المقهى فيقول: «من الأدباء الذين كانوا يترددون على مقهى "الهافانا" بشكل دائم "سعيد الجزائري، محمد حيدر، غسان الرفاعي، صميم الشريف، شوقي بغدادي، عادل أبو شنب، نصر الدين البحرة، وليد مدفعي، محمد الماغوط، جان الكسان"، أما "صلاح دهني" و"فارس زرزور" فكانا يترددان بصورة أقل، ثم انضم إليه روادها "محي الدين صبحي، مروان مراد، محمد المصري"، ولا بد في هذا المجال من الإشارة إلى أن مناقشات الأدباء الشباب في مقهى "الهافانا" تمخضت عن ولادة رابطة "الكتاب السوريين" التي تحولت فيما بعد إلى رابطة الكتّاب العرب، والتي عقدت اجتماعاً حضره كتّاب من دول عربية عديدة، ومن هنا اكتسب مقهى "الهافانا" شهرة واسعة لأنه كان ملتقى لكثير من رجال الفكر والسياسة، ومن أبرز هؤلاء "زكي الأرسوزي" وتلاميذه، وفي مقدمتهم "صدقي اسماعيل"، وكان من زبائن مقهى "الهافانا" الدائمين الشاعر الراحل "أحمد صافي النجفي" الذي كان يجلس جلسة طريفة، يتربع فوق كرسي الخيزران ويخلع نعله الجلدي، وكثيراً ما كان ينام وهو على تلك الحال، وحين يستيقظ كان لا يتوانى عن إخراج الخيز من جيبه والأكل، كما كان يرتاح لصحبة الصحفي "عبد الله الشيتي" الذي كان مخرجاً في جريدة "الأيام"».

ندوات أدبية كثيرة ومختلفة كانت تفام في مقاهي "دمشق"، من هذه المقاهي ما انقضى عليها الزمن واحتلت جزءاً من ذاكرة الدمشقيين، ولعلّ مقهى "بوبس" هو أحد تلك المقاهي، عن ذلك يقول "مروان": «في أواخر الخمسينيات أي في حوالي 1959 ظهرت ندوة أدبية جديدة واتخذت مقراً لها مقهىً صغيراً يقع إلى الشرق من مبنى الإذاعة القديم في شارع "النصر" وعلى الزاوية المقابلة له واسمه مقهى "بوبس"، وكانت صورة "أبو زيد الهلالي" تتصدر واجهة ذلك المقهى، ومن فرسان هذا المقهى الدكتور "أنطون حمصي، وليد مدفعي" وسائر الشباب الذين يعملون في المسرح والإذاعة أمثال "رفيق شكري، عمر الحلبي، محمد كناكري وغسان جبري" المخرج التلفزيوني».

مقهى "اللاتيرنا" "القنديل" كان إحدى الأمكنة التي تقام فيها الندوات الأدبية: «في بداية الثمانينات استقطب هذا المقهى الجديد الأدباء والفنانين، وبدأت تعقد فيه الجلسات الأدبية، كان هذا المقهى يدخل في منافسة مع مقهى "الهافانا" الذي عمد في بداية التسعينيات إلى رفع تسعيرة المشروب من القهوة والشاي، فقاطعه الأدباء والفنانون الذين وقفوا وشكلوا لجنة بإعادة مقهى "الهافانا" بعد أن تحول إلى مخازن لبيع الملبوسات، وقد استجابت الدوائر الرسمية لمطالب الأدباء والفنانين ومحبي "دمشق" فأعادت "الهافانا"، وبعد مقاطعة الأدباء لمقهى "الهافانا" أعاد مقهى "القنديل" فخصص غرفة لهم تعقد فيها ندوة "الثلاثاء"التي يديرها "شوقي بغدادي" وتحضرها مجموعة من الأدباء مثل الدكتور "عبد الرزاق جعفر، خيري الذهبي، الدكتور نبيل حفّار، الناقد محمد أبو خضور، الباحث خير الله سعيد، عبد الرحمن حلبي، الدكتور نزار بريك هندي، الناقد يوسف اليوسف، بسام هلسا"».

في ختام حديثنا مع الأستاذ والباحث التاريخي "محمد مروان" قال: «احتلت هذه المقاهي جزءاً كبيراً من ذاكرة الدمشقيين، ومنها أيضاً مقهى "الإيتوال"، حيث ظهرت ندوة "الإيتوال" في بداية السبعينيات مقابل "دار السلام" في ساحة "النجمة"، وكان هذا المقهى أكثر ارستقراطية من "الهافانا"، وجذب الأدباء "هاني الراهب، يوسف اليوسف، فاتح المدرس"، وكان ملتقى للعديد من الأدباء والفنانين لقربه من شارع "البرازيل" حيث مجلة "أسامة" و"المعرفة"، وظلت هذه الندوة ملتقى للأدباء والفنانين حتى أوائل الثمانينات، ثم تبعثر زبائنها لأن صاحب المقهى قرر تحويله إلى مطعم».

عن أهمية هذه المقاهي في إحياء الحالة الأدبية والسياسية في سورية، يقول الدكتور "نصر الدين البحرة": «منذ الأربعينيات من القرن الماضي أصبحت لهذه المقاهي مكانة أدبية وسياسية مهمة، وذلك بعقد الندوات الأدبية والسياسية فيها، فمنها تخرج الأدباء والفنانين السوريين المعروفين، ومنها انطلقت الجمعيات الأدبية والفنية لتبني لها مكانة هامة في حياة السوريين، حيث كانت هناك مقاهي صغيرة عبارة عن غرفتين تعقد فيها الندوات، ورحلت بتحويلها إلى مخازن ومطاعم، لكن بقي أثره واضحاً في كتابات الأدباء السوريين والعرب أيضاً».

من جانبه يعتبر الناقد السينمائي "منصور الديب": «المقهى عبارة عن برلمان ثاني لتبادل الأفكار، فثمة نقاشات حادة تحدث أحياناً بين بعض المثقفين وهذا يضفي طابعاً ليبرالياً على المقهى، كما أن دخول العنصر النسائي للمقهى حالياً أضفى عليه نكهة خاصة ونوعاً من الحداثة التي نفتقدها في أغلب المقاهي الدمشقية».