هم بائعون متجولون، ولكنهم مختلفون، في نوعية بضاعتهم.. في طريقة عرضها وأسلوب استدراج الزبائن ليشتروا منهم، ولأن بضاعتهم عبارة عن آلات موسيقية، فإنك تجدهم يعزفون في الشارع معولين على حلاوة صوت النغم ليدغدغ حلم المارة بتعلم العزف، أو ليلفتوا انتباه سائح يبحث عما يقتنيه من بلاد الشرق. فهل هم- (الباعة)- على دراية وافية بما يبيعون؟ أم إنهم غائبون عن كل ما يتعلق بمصدر رزقهم؟.

"ناصر الفرج" بائع متجول شاب يحمل في يده "ربابة" وفي جعبته العديد منها، قادم من منطقة "السيدة زينب" امتهن صناعة آلة الربابة منذ حوالي ست سنوات، استوقفه موقع eSyria أثناء تجواله في منطقة "جرمانا" حيث يبيع ما أنتجه من "ربابات"، يقول: «لا أعرف بالضبط متى ظهرت أول ربابة والمنطقة التي أنتجتها، ولكن ما أعرفه أنها ارتبطت بحياة البداوة منذ زمن بعيد، ويحكى أن صناعة أول ربابة تخبئ وراءها قصة رجل اتهم زوجته بالخيانة ثم ندم على ذلك، فيحاول استرجاعها مرات عديدة بعد أن لجأت لأهلها، ولكنها ترفض العودة، إلى أن تصل لفكرة توقف فيها محاولاته المتكررة فتقول له: "لن أعود حتى يتكلم العود" قاصدة بالعود عود الشجر أي الخشب وليس الآلة الموسيقية المعروفة، فيذهب الرجل إلى أحد الحكماء ويوحي له بصناعة آلة موسيقية من عود "العوسج" ويدله على الطريقة فيقوم بذلك ويكون نتاجها "ربابة" يأخذها إلى أهل زوجته ويعزف عليها جاعلاً العود يتكلم، ليستعيد على إثرها شريكته».

أستطيع عزف خمسة مقامات عليها وهي: "الراست والبيات والسيغا والحجاز والصَبا"

ورث "الفرج" هذه المهنة عن والده الذي أورثه إياها جده. وبساطة صناعتها وأدواتها جعلته يقوم بتصنيعها في بيته دون مساعدة أحد، ودون الحاجة لمشغل مخصص لصناعة الربابة، يقول: «أنتج حوالي 100 ربابة في الأسبوع بمفردي، وهي الآن مهنة رائجة كثيراً في منطقة "السيدة زينب"، فالبعض يوزعون الربابات بالجملة بكميات كبيرة، ووصل الأمر بالبعض إلى تصديرها لخارج القطر "دول الخليج- لبنان- الأردن" حيث يتعاملون مع التجار الذين يطلبون كميات (طلبيات)».

ناصر الفرج

ولأنه يقوم بتصنيع "الربابة" بنفسه فلا شك أنه يلمّ بمكوناتها وأجزائها، يقول: «تتكون الربابة من الإطار الذي يشكله تقاطع أربع قطع من خشب "الشوح" أو "الزان" تشكل مستطيلاً أو تكون القطعتان الخشبيتان العموديتان مقوستين للداخل يغطيها جلد "ماعز"، والبعض يرغبون بطبقة من "شِباك الخيزران" فوق الجلد.

وهناك أيضاً الرقبة وهي الزند (الساعد) الذي يمتد إليه الوتر الوحيد حيث يتم تحديد العلامات الموسيقية بالضغط على الوتر بأصابع اليد اليسرى، أما الوتر فهناك من يصنعه من شعر الخيل ويتم تثبيته على "الرقبة" بوساطة قطعة خشبية تسمى "الخابور"، يتم العزف بالقوس وهو مصنوع من خشب "الدفلى"، والخيط الذي يشده إما يكون بلاستيكياً أو يكون من شعر ذنب الخيل أيضاً؛ وهو المفضل، ويبقى "الفرس" وهو قطعة خشبية رقيقة طولها من 2 – 3 سم ترتكز على سطح جلد الربابة ويـُشد عليها الوتر».

ابراهيم المحمد

وعن مقاسات الربابة يتحدث "الفرج": «للربابة عدة مقاسات منها الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، ومن المفترض أن يكون طول الصندوق مساوياً لطول الرقبة، ويمكن أن يكون طول كل منهما 43 سم، أو 35 سم، أو حتى 20 سم».

وعندما سألناه عن أشهر عازفي الربابة في سورية قال: «أشهر من عزف على الربابة هو المطرب الشعبي "محمد صادق حديد" وهو من قرى مدينة "سلمية" في محافظة "حماة" وقد اشتهر بالعتابا، وله الكثير من الأغاني الجميلة التي رافقها عزفه المتقن عليها».

الفنان محمد عبد النبي والطفل ساجد الخطيب

يتقن "ناصر" العزف على "الربابة" وعلى "العود" أيضاً، ويوظف مهارته في العزف ليروج بضاعته بهدف كسب زبائن أكثر: «أعتقد أن بائع الآلات الموسيقية الذي يتقن العزف يكون أكثر نجاحاً في عملية البيع من البائع الذي يبيعها مثلما يبيع الصحون مثلاً، فأنا ألاحظ أن صوت الربابة يشد انتباه الناس ويحرضهم على التوقف للسؤال عن ثمن الآلة، وعندما يسألني بعضهم عن مدى صعوبة تعلم العزف عليها، تجدني أسمعهم بعض المقطوعات وأحاول أن أعطيهم فكرة عن تعلم العزف، وكيفية توضّع استخدام الأصابع لتحديد النغمات، هذا الأمر أظن أنه يخلق علاقة إيجابية بيني وبين الزبون، وهو أهم شيء في عملنا».

ولكن لماذا بقيت هذه الآلة الموسيقية التي تحمل خصوصية الشرق حبيسة استخدامها التقليدي؟ ولم يفسح لها المجال لتأخذ مكاناً في فرقة أو تخت شرقي، فبقيت وحيدة ترافق شاعراً أو مطرباً أو مردداً؟ سؤال استوقفنا به الفنان "محمد عبد النبي" وهو عازف عود من "بيت سحم" فقال: «أعتقد أن السبب هو لكون الربابة آلة موسيقية وترية غير مكتملة الأصوات، وإمكانياتها محدودة، فلا يمكن عزف جميع المقامات الموسيقية عليها، وهذا مردّه إلى أنها بوتر وحيد، ولأنها ارتبطت بمرافقة شعراء البدو أثناء إلقاء القصائد في مجالس شيوخهم، وهذا لا يتطلب مساحة موسيقية كبيرة».

وهنا يقاطعه "ناصر الفرج" بالقول: «أستطيع عزف خمسة مقامات عليها وهي: "الراست والبيات والسيغا والحجاز والصَبا"».

فيعزف لنا "الفرج" أمثلة لهذه المقامات، ويجيبه "عبد النبي" قائلاً: «صحيح تستطيع أن تعزف هذه المقامات ولكن إمكانياتها محدودة في عزف المقام الواحد أي إنها لا تلبينا في عزف "الراست" من علامة "دو" أو "الراست" من "ري" أو من "فا" وهذا ينطبق على بقية المقامات التي يمكن تصويرها عليها، فهي آلة لم تتطور على الرغم من خصوصية صوتها، وتطويرها يبدأ من إضافة أوتار عليها على غرار ما طرأ على آلة "العود"، لذلك بقيت كما هي بلا أفق يجعلها تحتل مكانة في عالم الفرق الموسيقية، وصارت قطعة تراثية للعرض أكثر مما هي للعزف».

أثناء تجواله يبيع "ناصر" بين 8 إلى 12 ربابة في اليوم، إذ يتنقل بين مناطق "جرمانا، السيدة زينب بقرب المقام، الزاهرة، الحدائق" بين الساعة الخامسة مساء إلى منتصف الليل، يقول عن حركة البيع: «لا تقتصر تجارة "الربابة" على فصل من فصول السنة إلا أنها تختلف من فصل لآخر، ففي الصيف تشهد ازدهاراً أكثر من فصل الشتاء، وخاصة في أشهر تموز وآب وأيلول من كل عام، نظراً لتوافد السياح إلى سورية وخاصة من الخليج، إضافة إلى أن الناس يفضلونها في رحلاتهم وفي "السيارين"، وبناء على ذلك فإننا نركز نشاطنا وجولاتنا في المناطق السياحية مثل "بحيرة زرزر، نبع بردى، عين الفيجة، الزبداني.. الخ" وخاصة يوم الجمعة والعطلات الرسمية».

وعلى مقربة من "سوق الحميدية" التقينا بائع المجوز المتجول "ابراهيم المحمد" (أبو محمد) الرجل الذي يأتي كل يوم من "درعا" إلى "دمشق" حاملاً معه حزمة من آلة "المجوز" و"الناي"، ومن يقصد هذا الرجل ليشتري منه ليس عليه سوى أن يصغي السمع وسط المارة في تلك البقعة المزدحمة دائماً، ولن يكون هناك من يرشده إليه أفضل من صوت "المجوز" وهو يعزف عليه نغماته التي تحمل معها أطيافاً من الريف، ومن ألوانه وأنماطه الغنائية الفلكلورية، يقول "أبو محمد": «المجوز آلة نفخية قديمة جداً تصنع من القصب وتصنع أيضاً من المعدن، كانت فيما مضى من سنوات تقوم عليها الأفراح والأعراس بمرافقة الطبل، وسمي "المجوز" بهذا الاسم نظراً لأنه يتألف من قصبتين متلاصقتين بنفس الطول، وكل قصبة عليها ستة ثقوب، وتضاف للقصبتين قطعتان صغيرتان من القصب أيضاً تسميان "الخـَـوَات" أو "البُـنيات" ومن خلال الريشتين المحدثتين عليها يصدر صوت "المجوز" لنقوم بتحديد النغمة بوضع الأصابع على الثقوب، هناك عدة أحجام وأطوال للمجوز تختلف معها طبيعة صوت الآلة، ولكن هذه التي أبيعها يقدر طولها بحوالي 30 سم».

لا يجد السائل عن "أبي محمد" صعوبة في العثور عليه وعن هذا يقول: «أنا أعزف طوال الوقت على "المجوز" وأجد أنها الطريقة الأكثر قدرة على جذب الزبائن، خاصة أنني أبيع في منطقة تعد الأكثر ازدحاماً في "دمشق"، ولا أملك محلاً أضع عليه لافتة، لذلك لجأت للعزف».

امتهن "ابراهيم المحمد" بيع "المجوز" منذ عشرة أعوام كانت كفيلة بأن تجعل منه عازفاً متمكناً ومع ذلك فإن إتقانه للعزف لم يرافقه تعمق في عالم الموسيقا ومقاماتها فبقيت علاقته بالمجوز علاقة فطرية وكل المقطوعات التي يرددها يعزفها بشكل سماعي، يقول: «لا تسألني عن المقامات التي أعزفها لأنني لا أحفظ أياً منها، ولكني أعزف الكثير الكثير مما كانت تجود به قصبات العازفين في "حوران"، وأحب أن أرددها دائماً وعلى أصولها».

يجد "أبو محمد" صعوبة في تحديد عدد "المجاوز" أو "النايات" التي يحملها في جعبته كل يوم، فتراه يجيب بكلمة (تقريباً) أو (حوالي)، وهذا الأمر يتكرر عنده أيضاً عندما يتحدث عن عدد أولاده، فهو متزوج من امرأتين ولديه منهما حوالي عشرين ولداً بين ذكور وإناث، حيث يقوم عدد منهم بصناعة هذه الآلات في حين يقوم هو ببيعها في شوارع "دمشق".

الطفل "ساجد الخطيب" 10 سنوات قطع حديثنا مع "أبي محمد" ليشتري منه، فاستوقفناه لنسأله عن السبب الذي دفعه لذلك، فقال: «أنا أحب الموسيقا، وأرغب بتعلم العزف على "الناي" لذلك كنت أبحث أنا وصديقي عن بائع "المجوز"».

وعندما طلبنا منه أن يعزف لنا قطعة صغيرة لم يتردد في تلبية طلبنا، ولكن بدا واضحاً أنها المرة الأولى التي يمسك فيها هذه الآلة، مثلما بدا واضحاً أنه يضمر رغبة كبيرة في إتقان العزف عليها.. فهل سيفعل؟ كل شيء ممكن، ولكن عليه أن يتذكر دائماً أن أول "ناي" عزف عليه كان من عند "أبي محمد" البائع المتجول.