كان لـ"دمشق" وفقاً لموقعها الجغرافي أهميةً تاريخيةً، مما فرض على ملوك وأمراء الحضارات التي مرت عليها اختيارها كعاصمةٍ لدولهم على مر العصور، فكانت تقصدها الوفود التجارية والصناعية من كافة أصقاع الأرض صيفاً وشتاءً.

ولكونها تعرضت للحروب والغزوات بشكل دائم فقد فرض ذلك على هؤلاء الحكام بناء أسواقٍ تجاريةٍ وصناعيةٍ ففي العهد العثماني تجمعت الحرف والصناعات في أسواقٍ مهنيةٍ تخصصيةٍ، تفرعت من السوق الأكبر "الحميدية"، الذي بني في عام 1863م خلال حكم السلطان العثماني "عبد الحميد" وسمي باسمه، وتتفرع عن هذا السوق وتحاذيه أسواقٌ كثيرةٌ تزيد عن 12 سوقاً، منها: "سوق مدحت باشا" الذي بناه الوالي العثماني على "دمشق" "مدحت باشا"، و"البزورية" وسمي بهذا الاسم لما يباع فيه من مواد غذائيةٍ وحبوبٍ وبذورٍ مجففةٍ وزيوتٍ وبهارات، إضافةً إلى "سوق الحريقة" و"الخياطين" و"العصرونية" و"القباقبية" و"السروجية"و "سوق سروج الخيل" و"سوق الحرير" وسوق العرائس "تفضلي يا ست" و"سوق الطويل" و"سوق المسكية" و"سوق القيشاني" و"سوق الصوف" و"سوق العبي" وسوق الصاغة "سوق الذهب"، وحديثنا اليوم سيكون عن "سوق الصاغة" والذي كان يضم ما يقارب الـ72 محلاً، تعرض السوق للاحتراق في عام 1960م فتم نقله إلى مكانه الحالي في "منطقة الحريقة" عام 1961م، ولا يزال منذ ذلك الحين يجمع الصاغة والبالغ عدد مَحالهم 150 محلاً، رغم انتشار المَحال في أنحاء "دمشق" والتي يصل عددها مع مَحال السوق عينه إلى 1200 محل، تشرف عليهم وتهتم بأمورهم وتعاملاتهم مع الناس "الجمعية الحرفية للصياغة والمجوهرات" بدمشق، التي تتبع لاتحاد الحرفيين.

يعد العهد الأيوبي المحطة الأولى لسوق الصاغة بدمشق، وفي العهد المملوكي ازدهرت هذه الصناعة بشكلٍ كبيرٍ، فكان لها سوقان: "الصاغة العتيقة" و"اللؤلؤ" بالقرب من "سوق الحدادين"، والصاغة الجديدة في "القيسارية قبلي" "سوق النحاسين"

الذهب هذا المعدن الذي حفظ تاريخ الحضارات، فاعتبره الرومان الابن المدلل للإله "زيوس"، وقدسه الفراعنة لكونه مصدراً للقوة والثراء ورمزاً للنور وإشراق الشمس، فدفنوه مع "خوفو" أول ملوكهم، ودفنوا ملكهم الشاب "توت عنخ آمون" في قبرٍ مطليٍ بالذهب ووضعوا له قناعاً منه مع مئات القطع والأواني الذهبية، أما ملكة الآشوريين "سميراميس" فصُنعت منه تماثيل ضخمةً للآلهة، واستُخدم محلوله في الرسم على الزجاج والسيراميك، وزينت خيوطه ملابس النساء والرجال، كما صنع منه حلي الزينة، مما أكسب الذهب قيمةً عاليةً وأضحى الجميع يهتم بهذا المعدن الثمين الذي لا يفنى.

المعدن الثمين

هذه المعلومات وأخرى حدثنا عنها المؤرخ "نعمان قساطلي" في كتابه "الروضة الغناء في دمشق الفيحاء" المطبوع لأول مرةٍ في عام 1879م أثناء حديثه عن "سوق الحميدية" حيث جاء فيه: «يعد العهد الأيوبي المحطة الأولى لسوق الصاغة بدمشق، وفي العهد المملوكي ازدهرت هذه الصناعة بشكلٍ كبيرٍ، فكان لها سوقان: "الصاغة العتيقة" و"اللؤلؤ" بالقرب من "سوق الحدادين"، والصاغة الجديدة في "القيسارية قبلي" "سوق النحاسين"».

السيد "نقولا قاروط" صائغٌ حرفي في سوق الذهب القديم التقيناه بتاريخ 8/1/2009 عن الذهب حدثنا فقال: «إن ما أكسب هذا المعدن هيبته عن غيره من المعادن الصعوبة والتكلفة العالية لاستخراجه، وصعوبة تحليله عن المواد المدموج معها، وتميز الصيّاغ السوريون بمهارةٍ عاليةٍ في تصنيعه وسحبه، وبزخرفاتٍ ونقوشٍ استطاعت أن تحتل مكانةً مرموقةً على مستوى العالم، مما جعل الكثير من السيّاح يؤمّون سورية سعياً لاقتناء هذه الموديلات المتنوعة الأشكال، لأن العمل في صناعة الحلي يتميز بالتخصص، فلكل صائغٍ موديلاتٌ محددةٌ يعمل بها ويصنعها من أساور وخواتم، إضافةً إلى عددٍ كبيرٍ من المرصعات التي تُزركش بها المشغولات من أحجارٍ كريمةٍ».

السوق الذي تعرض للاحتراقه عام 1960م

أما الحرفي "بوغوص نيوفكيان" وهو أيضاً صائغ في سوق الذهب الجديد قال لنا عن هذه الحرفة: «في الماضي لم تكن التقنيات الأولية المستخدمة في صياغة الذهب تعتمد على النار، بل كانت لا تتعدى وسائل الطي والضغط والتسطيح والتدوير والمطرقة والسندان والملاقط، إلى أن دخلت النار واستُخدمت في تنقية الذهب من الشوائب، فكان الصائغ ينفخ في النار ويحمي وجهه وفمه بقطعةٍ من السيراميك، إضافةً إلى استخدامه لآلاتٍ بسيطةٍ كالبوري ودواليب السحب، ثمّ تطور العمل بإدخال أفرانٍ خاصةٍ للنفخ والتسخين والمعالجة، وهناك نماذج كثيرةٌ من صناعاتٍ يدويةٍ وحرفيةٍ موجودةٌ في متاحف العالم، أما اليوم فقد دخلت الآلات الحديثة في تصنيع النماذج وصبها على الشمع وسكبها فصارت النقوش تنقش بالليزر، مما أدى إلى ارتفاع عدد المحال المتخصصة ببيع الذهب، ولكنها محال تجارية وليست حرفية».

أما السيد "نديم دلول" فتحدث عن تاريخه وذكرياته في السوق القديم وعن مواسم البيع بقوله: «أنا في السوق منذ عام 1963م، وكان هذا المحل للسيد "إيلي عربيلي"، وأذكر أن والدي أخبرني أنه اشترى الذهب لخطبة والدتي من هذا المحل، فحاولت الحفاظ عليه وعلى هيئته القديمة، وعلى النقوش التي كان يتميز بها صاحب هذا المحل، من نقوشٍ بلديةٍ ومباريم وجنازير، لأحافظ على زبائن هذا المحل القدامى الذين ما زال أبناؤهم وأحفادهم يتوافدون إليه وهم على الأغلب من "ريف دمشق"، طبعاً يكون موسم البيع في أغلب محال سوق الذهب مع موسم الأعراس أي في فصل الصيف، ولذلك فإنك تجد أن تجار السوق يؤمنون مستلزماتهم طوال الشتاء لهذا الموسم، فلكل محلٍ زبائنه الدائمون».

سوقو الصاغة الجديدة في "القيسارية قبلي"

وبالتوجه إلى الشاري كان لنا لقاء مع بعض زبائن السوق كالسيدة "أم محمد النبكي" التي قالت لنا: «برغم وجود محالٍ تجاريةٍ للذهب في المنطقة التي أقطن بها، إلا أنني لا أشتري صياغتي سوى من محال "سوق الذهب"، لأن الموديلات فيه متنوعة، وأصحاب محال هذا السوق يكتسبون ثقة الزبائن بنسبةٍ أكبر من أصحاب المحال التجارية الموزعة على بعض الأسواق التجارية الصغيرة الموجودة في بعض الأماكن السكنية، ونلاحظ نتيجةً لخبرتهم الاقتراحات التي يقدمونها لنا ذات النظرة الحرفية المهنية المتخصصة».

كما تحدثت الآنسة "ماريا الحوراني" إلينا بقولها: «إننا كقاطنين في دول الاغتراب نأتي إلى بلدنا الأم سورية في كل عامٍ مرةً لمدة شهر، وأنا عادةً آخذ الهدايا لأقربائي وأصدقائي في فرنسا -دولة الاغتراب التي نقيم فيها- من الأسواق المحلية المتخصصة بمنتجاتها كسوق "القباقبية" وسوق "الصاغة"، وآخذ بعض الصور للمناطق الأثرية وأقدمها لهم كهديةٍ إضافيةٍ مني، لأنني أريد أن يعرف أصدقائي صدق وحقيقة ما حدثتهم به عن بلدي الأم تاريخياً وحضارياً، وعن تقدمها عن كثيرٍ من الدول الأخرى، وعما يوجد فيها من صناعات تتميز بدقةٍ وإتقانٍ وحرفية، فنحن السفراء الحقيقيون لبلدنا».

كلما غلت عناقيده، كلما زادت حلاوته، وسحرت به العيون وأسرت، حتى السيدة "فيروز" رغم تواضعها بدأت إحدى أغانيها بذكره: "غالي الدهب غالي وحليت عناقيدو"، الذهب هذا المعدن الثمين، الذي يصطف في أسواق "دمشق" وخاصةً "سوقي الصاغة" القديم قبلي "الجامع الأموي" و"السوق الجديد" الكائن في "منطقة الحريقة"، ليزين يد العروس يوم زفافها، وهديةً للمخطوبة من خطيبها، ورسالةً من الحبيب إلى محبوبته ليخبرها بأنه يريد الزواج منها.