يؤرقك شوق عارم لذاك المكان العتيق، وهو يختبئ في أحد الأزقة الدمشقية القديمة التي تمتد من شارع العابد، تطرق مخيلتك عندما تطؤه قدمك عشرات الأسئلة بعشوائية وجنون.

صاحبه رجل يشبه مقتنيات محله القديمة والمهملة، وكأنه سقط ذات يوم من حافلة التاريخ عن سابق إصرار وتصميم، فنسي الزمن أن يدون اسمه في سجلاته وظل يرتبط بذاكرة حية متقدة هي سنوات الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، بل وآثر أن يبقى ملتزماً بذاك الزمن الذي يعيش معه لحظات حنين عبثية.

هو مظهر الفاتح "أبو وائل" صاحب مطعم "اسكندرون"، المطعم الذي ربما يحق له أن يدخل موسوعة الأرقام القياسية لصغر حجمه، فهو عبارة عن محل لا تتجاوز مساحته ستة عشر متراً، مؤلف من ثلاث طاولات ومقتنيات قديمة جداً لم يغيرها "أبو وائل" منذ أن فتح محله حتى إن أغلبها ورثها عن أبيه الذي كان قد ورثها عن جده، وهم سلالة توارثت الكار عن بعضها. مطعم اسكندرون لا يتميز بمأكولاته ولا بصغر حجمه اللافت، ما يميز هذا المكان هو الفريق الذي يحتفي بضيافته يومياً.

مجموعة كبيرة يتسع لها هذا المكان الصغير، لا أحد يمكن أن يقيد بتصرف ما كي يساير المجموع، الكل يأكل بالطريقة التي تناسبه ويضحك بصوت عال ويلقي الشعر متى أحب. عندما تحتل واحداً من الكراسي الجلدية القديمة يبادلك "أبو وائل" السلام ويجلس بالطرف المقابل منك، ليتعرف على اسمك من أحد الأشخاص الذين دعوك، وهم حتماً من معارفه... بعدها يبدأ صاحب المكان بدون توقف بسرد النوادر والحكايا التي حفظها وألفها عن أشخاص مهمين وغير ذلك، وهو تقليد معروف عند صاحب المكان لكل زبون جديد، ليبدأ بعد ذلك مشوار ذاكرته بالمسير للوراء، ليعد أسماء كل الأشخاص الهامين من مدراء ووزراء ومبدعين جلسوا على نفس الكرسي الذي يجلس عليه الزبون الجديد، ولن يمر وقت طويل حتى يجتمع مجموعة من الصحفيين أو أساتذة الجامعة المتقاعدين تحديداً، أو الشعراء الذين يعرفون بعضهم ويسهرون بشكل دوري في مطعم "اسكندرون" الاسم الذي يقول صاحبه أنه أطلق على المحل من أكثر من مئة عام، نسبة لصاحبه الأول الذين ينحدر من أصول تعود إلى "لواء اسكندرون".

ربما تداهمك نشوة رائعة وأنت تجالس "أبو وائل" وتستمع إلى تاريخ محله ونوادره الطريفة، وربما يصنع منك حدسك طائراً يحلق بطريقة لا تعرفها معظم الطيور، تعتريك حالة من الارتياح لا تعرف إلا القليل عن وصفها، همومك تتحول فجأة إلى زخات مطر تسير في أزقة الشام العتيقة.

تستمع إلى الشعر والقصة القصيرة، وتتعلم السخرية والتهكم من كل الأشياء على يدي "أبو وائل" وزبائنه.

يتحدث "أبو وائل" عن كيفية تسلسل المهنة في عائلته فيقول: أنا ورثت المهنة عن أبي، أعرفك به (رحمه الله)- مشيراً إلى صورته المعلقة على الحائط- وهو ورثها عن أبيه، أعرفك به أيضاً- ويشير إلى صورته الأخرى المعلقة إلى جانبه ويضيف: بعد فترة ستنتهي هذه المهنة عندما يفسح والدي لي المجال قليلاً لتعلق صورتي بالقرب منه.

أحاديث "أبو و ائل" تمتزج بأجمل أبيات العتابا المنبعثة من جهاز التسجيل القديم لمجموعة مطربين لا يعرفهم إلا القلائل، منهم: "إيلي بيضة"، و"محمد خيري" وغيرهما.. تودع "أبو وائل" وضيوفه الذين تجمعهم صداقة حميمة مع المكان وصاحبه الذي يقضي يومه متنقلاً بين أصدقائه على طاولاته الثلاث. تودعه فتشعر بضيق، وكأن أمطارك أمست ملوثة وقدرك أصبح العطش، وروحك أصيبت بقلق مزمن، تسمع صدى لصوت لا تعرف من أين يأتي، يشجعك على العودة لذاك المكان وسهرات المثقفين وأمسياتهم العفوية وتخلي المسؤولين من رواده عن كل ما يرهقهم، عساك ترتل معهم، مجتمعين "كزهر اللوز أو أبعد" للشاعر "محمود درويش".

17/7/2008