بالكثير من الحب.. والدهشة.. والحنين.. واصل أبناء "دمشق" وزوّاها سلسلة جولات "شامنا فرجة" التي أطلقتها الأمانة العامة لاحتفالية "دمشق" عاصمة الثقافة العربية قبل ثمانية أشهر احتفاءً بأحياء المدينة التي تقع خارج أسوارها التاريخية..

وكما دائماً كان موقع "eSyria" حاضراً بين أبناء "دمشق"، حيث بدأ مشوارنا في الشهر الخامس من العام /2008م/ بحي "العمارة"، وشملت زياراتنا الشهرية أحياء: "سوق ساروجا، الصالحية، الشاغور، الميدان، القدم، والقنوات" لينتهي بنا المطاف في ساحة "الشهداء".. ساحة "المرجة" يوم (20/12/2008).

يتألف القصر من ثلاثة طوابق، ويأخذ مدخله شكل النجمة التركية، في حين أن شرفاته وشكله الخارجي يأخذان طابعاً فرنسياً..

قاد جولتنا في ساحة "المرجة" المهندس "عصام الحجّار" من المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى، لكنه لم يكن دليلنا الوحيد، فالكثيرون ممن شاركونا الجولة –لا سيما المسنّون منهم- وضعوا ذكرياتهم عن الساحة في تصرفنا لنعيد معاً رسم ملامح زمنٍ مضى..

تعددت التسميات التي أطلقت على الساحة باختلاف الأزمنة التي مرّت عليها، كما كانت تنسب أيضا إلى الأبنية التي شيدت فيها، هذا ما وجدناه بالرجوع إلى عددٍ من المصادر التاريخية لا سيما كتاب "ساحة المرجة ومجاوراتها في دمشق بين الأمس واليوم" للمؤرخ الراحل د."قتيبة الشهابي" الذي طبعته الأمانة العامة للاحتفالية على نفقتها وتم إطلاقه بمناسبة هذه الجولة، ومما جاء فيه: «أطلق على الساحة اسم "الجزيرة" في منتصف العصر العثماني، وكذلك اسم "بين النهرين" حين كان نهر "بردى" يتفرع فيها إلى فرعين يضمان بينهما قطعة من الأرض تشكل جزيرة خضراء مزروعة بالأشجار والنباتات والرياحين، وفي مطلع القرن التاسع عشر سميت بـ"المرجة" لانتشار الخضرة فيها..، وفي أواخر القرن التاسع عشر أصبح اسمها "ساحة العدلية، والبريد والبرق" نسبة إلى تلك المباني، وفي بدايات القرن العشرين سميت بـ"الميدان الكبير"، وساحة السرايا نسبة للسراي الجديدة التي بنيت فيها – مبنى وزارة الداخلية الحالي-، وفي عهد الحكومة العربية (1918-1920م) صارت اسمها ساحة "الشهداء" تخليدا لشهداء (6 أيار) وأصبحت هذه التسمية رسمية إلى الآن، لكن تسمية "المرجة" شاعت على ألسنة الناس أكثر من الأسماء الأخرى واستمرت في أيامنا..».

وتقع ساحة "المرجة" في الجهة الغربية من المدينة القديمة، إلى الجنوب من حي "سوق ساروجا"، وإلى الشمال من حي "القنوات"، ومن أهم معالم الساحة الحالية جامع ومجمع "يلبغا" التجاري ويتم بناؤه في موقع الجامع التاريخي الذي بناه الأمير "سيف الدين يلبغا" سنة /757 هجرية/، وكان من أكبر مساجد "دمشق" الجامعة، إلا أنه هدم في العام /1975م/ بغرض إعادة بنائه ضمن مجمع تجاري في وسط المدينة، لكن عملية البناء تعثّرت وتأخرت كثيراً بسبب تفجّر المياه الجوفية عند حفر الأساسات، ومايزال الجامع قيد الإنشاء اليوم وهو في مراحله النهائية تقريباً. ومقابل المجمع تقريباً يوجد بناء "العابد" الذي يعود تاريخه إلى العام /1906/م وقد أقامه "عزّت باشا العابد" على أنقاض قصر والي "دمشق": "كنج يوسف باشا" الذي كان يعرف باسم مبنى السرايا القديمة، وإلى جانب بناء "العابد" تقريباً يحتل بناء "الشرباتي" حالياً إحدى زوايا الساحة وقدم تم إنشاؤه أواخر الخمسينيات من القرن العشرين مكان دار البلدية التي أنشأها الوالي "حسين ناظم باشا" في العام /1885م/، وإلى الغرب من بناء "الشرباتي" يوجد مبنى السرايا الجديدة: مبنى وزارة الداخلية الحالي الذي يعود تاريخه إلى العام /1900م/.

جامع "فضل الله البصروي" وإلى يمينه "قصر غازي".

أما النصب الموجود في وسط الساحة فيعود إلى العام /1906م/ في عهد السلطان العثماني "عبد الحميد الثاني"، وبحسب كتاب د." قتيبة الشهابي": «أقيم هذا النصب تخليداً للاتصالات البرقية بين "دمشق والمدينة المنوّرة"، ووضع تصميمه الأصلي المهندس المعماري الإيطالي "ريموندو دارونكو" عام /1900م/ ونفّذته بالبرونز شركة "كروب" الألمانية عام /1905م/ أيام الوالي "حسين ناظم باشا"، ويبلغ ارتفاعه حوالي /16/ متراً تقريباً.. ويحمل في أعلاه نموذجاً مصغراً لجامع "يلدز" في "اسطنبول"..».

وفي الزاوية الشمالية الغربية للساحة يوجد فندق "عمر الخيّام" الذي يعود تاريخه إلى العام /1927م/ وكان يعرف باسم فندق "أميّة" أحد أشهر فنادق "دمشق" التاريخية الذي شهد استقبال كبرى الشخصيات الرسمية، وإلى جانب الفندق من جهة اليسار يوجد "قصر غازي" الذي بناه "أحمد شاكر غازي" في العام /1814م/ بجهود معماريين فرنسيين وأتراك وتابع ابنه "واصف" البناء فيما بعد ليأخذ القصر شكله الحالي، وقد فتح لنا أبوابه لأول مرّة ليرينا من الجمال والأصالة ما يليق بأقدم عاصمةٍ مأهولة في التاريخ حيث تصوغ التحف الموزعة في أرجائه لوحة موزاييك نابضة بالحياة، وعند الباب استقبلتنا مالكة القصر الحالية السيدة "أمل غازي" بكل ما تتحلى به السيدات الدمشقيات من البشاشة والكرم وحسن الضيافة، قدّمت لنا القهوة المرّة والحلوى المعجونة بالورد الدمشقي وحلوى السمسم، وفسحت المجال لأكثر من مئة زائر للتجول في أرجاء القصر. وبحسب السيدة "أمل": «يتألف القصر من ثلاثة طوابق، ويأخذ مدخله شكل النجمة التركية، في حين أن شرفاته وشكله الخارجي يأخذان طابعاً فرنسياً..». وتسكن السيدة "أمل" حالياً في الطابق الأول الذي تتوزع غرفه على مساحة /500/ متر مربع، في حين تحتل "دائرة آثار ريف دمشق" الطابق الثاني، ومازالت السيدة "أمل غازي" تحافظ على نفس الشكل التاريخي للقصر، والكثير من تفاصيل الحياة فيه كالموقد الذي يعمل على الحطب، والمدفأة، ومعظم أدوات المطبخ، وقطع الأثاث.. غادرنا "قصر غازي" بكل ما تملكنا من مشاعر الدهشة أمام الجمال الذي شاهدناه، والاحترام لهذا الأسلوب في الحفاظ على التراث، ثم تابعنا جولتنا سريعاً على عددٍ من المباني المتبقية في الساحة كجامع "فضل الله البصروي" الملاصق للقصر والذي يعود تاريخه إلى العام/1814م/، وبناء "الحايك" أو "القصاص" الذي يقع على بعد عدة أمتار من الجامع عند زاوية جسر "فكتوريا" وقيل لنا أن هذا البناء كان مقراً لــ "مصرف سورية ولبنان"، وقد تم تشييده في خمسينيات القرن الماضي مكان فندق "فيكتوريا الكبير" الذي تم بناؤه خصيصاً لاستقبال ملكة بريطانيا "فيكتوريا" التي أرادت زيارة "دمشق" إلا أن هذه الزيارة لم تتم، ويحكى أن "فندق فيكتوريا الكبير" شهد مواجهاتٍ بين رجال الدرك وعددٍ من أبناء المدينة الذين هاجموا الفندق لطرد "اللورد بلفور" صاحب الوعد المشؤوم سنة/1925م/ مما اضطره للهروب من باب الخدم تحت حماية فرنسية...

في "قصر غازي"

تلك كانت أهم ملامح ساحة "المرجة" التي التقطناها لكم خلال ساعتين تقريباً من التجوال في أرجائها الفسيحة، حيث يروي كل ركنٍ من أركانها حكاية للتاريخ والذكرى، وبختام جولتنا في هذه الساحة أنهينا معاً مشوار "شامنا فرجة" الذي مشيناه خطوة بخطوة على مدى ثمانية أشهر، وفي كل مرة كشفنا لكم عن أماكن فتحت أبوابها لنا لأول مرّة لترينا من جمال "دمشق" وأصالتها ما يستتر بتواضعٍ وراء الأبواب المغلقة، وفي كل تلك المرّات كان الدمشقيون يستقبلوننا بكرمهم المعتاد، ويتركون في أذهاننا ذكرياتٍ لا تنسى..