تجربة اجتماعية تعكس شكلاً من أشكال الاستلاب الذي عاشته المرأة في بعض المجتمعات، ويشبه حالة الوأد الجاهلي، إلا أن الوأد هنا وأد معنوي- على حد تعبير المفكر العربي عبد الله الغذّامي- أو أن القبر فيها يتمتع بخاصية الحركة والانتقال فينتقل بالموؤدة به عاطفياً واجتماعياً أينما حلت وحيثما توجهت... إلى ما شاء الله، إنه "الحيار" الطقس الاجتماعي الذي كان منتشراً في وقت من الأوقات في بقاع الجزيرة السورية، فهل بقي من آثاره شيء إلى يومنا هذا؟.

الرحالة البريطانية "الليدي آن بلنت" التي زارت وادي الفرات في نهاية القرن الثامن عشر ذكرت قضية "الحيار" متعرضة لتعامل القبائل البدوية في منطقة الفرات معها من خلال قصة زواج أحد شيوخ "العنزة" من فتاة محيرة: «إن العروس في غاية الجمال على الرغم من أنها تبلغ الثلاثين من العمر وتعتبر عجوزاً عذراء بالنسبة للفتيات العربيات، وقد منعها من الزواج طوال هذه الفترة ظرف عائلي خاص، فحسب تقاليد البادية تبقى الفتاة تحت تصرف ابن عمها وعليها أن تنتظر سنوات حتى يختارها للزواج أو يعتقها.

علمنا بأن شيخ "السرحان" كان قد قرر بأن العروس لم تتخذ أية خطوة لإلزام ابن عمها ليفي بوعده ولهذا فحقه بها لا يزال قائماً ونقل هذا القرار إلى "جدعان" الذي وضعها على جمل وأرسلها إلى شيخ السرحان حالاً، وهناك أقيم للفتى وابنة عمه عرس كبير كان من ضيوفه "جدعان" الذي لم يفسد على العروسين السرور

وهو ما حدث في هذه الزيجة ولكن شخصية "جدعان" القوية أقنعت والد العروس أن يتجاوز حق ابن عمها بها، وقد ساعد على ترتيب الأمور لكون والدة "جدعان" من عرب "السرحان... ومع ذلك كان هناك نوع من الشك بمشروعية هذا الزواج».

الحاجة فريدة الخلف

وتضيف متحدثةً عن تبعات تجاوز "الحيار": «كانت الدعوى مقامة ضد "جدعان" أقامها عليه ابن عم زوجته الجديدة من شباب "السرحان" أقام الدعوى لكي يسترد ابنة عمه لأنهم لم يستشيروه ولم يعط موافقته على الزواج... كانت القضية بمنتهى الغرابة ونحن كنا نهتم كثيراً بمعرفة القرار لأنه إذا ما أعطي ضد "جدعان" فسيكون مؤشراً رائعاً على قوة القانون بين القبائل، إن "جدعان" لا يملك كامل الحقوق في هذا المكان بينما ابن العم شخص بغير نفوذ ويتهم من قبل الجميع بضعف العقل لأنه عامل الفتاة بشكل سيئ ولا يستحق التشجيع ومع ذلك يعتقد أنه سيربح القضية.

تبلغ الفتاة الثلاثين من العمر بينما كان ابن عمها في الثالثة والعشرين فقط، وادعاؤه لا يمكن أن يؤخذ على محمل الجد لأنه رفض أن يتزوجها وكان يؤجل الزواج بها سنة بعد أخرى حتى مل والد الفتاة من الانتظار ويبدو أن "جدعان" لا يعلم بوجود مثل ابن العم هذا حتى تم زواجه وانتهى...

ابن العم طالب بالفتاة نفسها من أبيها أو بأربع بنات أخريات بدلاً منها، إنه طلب مستحيل ولكنه على ما يبدو شريعة عند البدو لا بد من أن تنفذ وكحل وسط وافق الأب أن يعطي ابنته الأخرى لابن عمها بدلاً من ابنته التي تزوجت ولكن ابن العم لم ينصت لهذا الاقتراح ولكي يؤكد إصراره ركض وأحضر رمحاً كان على جمل لرجل عجوز وهرع إلى الداخل.

كان ابن العم يطالب بتطبيق العرف البدوي الذي لا يمكن له إلا أن يبطل الزواج أو أن يدفع إليه مهر الفتاة على الأقل ومقداره في هذه الحالة ألفا قرش».

وبعد طرح القضية على شيوخ العشائر كانت النتيجة كما أوردتها "الليدي آن بلنت": «علمنا بأن شيخ "السرحان" كان قد قرر بأن العروس لم تتخذ أية خطوة لإلزام ابن عمها ليفي بوعده ولهذا فحقه بها لا يزال قائماً ونقل هذا القرار إلى "جدعان" الذي وضعها على جمل وأرسلها إلى شيخ السرحان حالاً، وهناك أقيم للفتى وابنة عمه عرس كبير كان من ضيوفه "جدعان" الذي لم يفسد على العروسين السرور».

وللتعرف على هذه العادة وما يحيط بها التقينا السيدة "فريدة الخلف" التي حدثتنا عن "الحيار" قائلةًً: «"الحيار" هو إرث عشائري دافعه الأساسي هو الحفاظ على النسب وهذه قضية لا يستهان بها عند أهالي المنطقة، وله دوافع اجتماعية أخرى، واقتصادية في بعض الأحيان.

وكما تتعدد أشكاله تتعدد أسبابه فالشكل الأهم فيه يبدأ منذ الطفولة، حيث يقرر أحد الأعمام أن ابنة أخيه فلانة هي لابنه، فتكبر الطفلة والطفل وهما يسمعان تعليقات تخص هذا الارتباط الذي يوثقه العم بأكثر من الكلام، فكان يقطع جزءاً من أحد أكمام ثوب الطفلة، ويحتفظ به ويعبر عن هذه الحالة بالعامية بمقولة "جدع اردانها" أو يقال "فلانة مجدوعة ردن لفلان" والجدع لغة هو القطع أو القص، ويكون بهذه الحالة قد حيرها لابنه.

ويرتبط مصيرها بمصيره إن شاء تزوجها وإن شاء تزوج غيرها، وتركها للعنوسة دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب منها لأنها كما يقال "محيّرة" وأمرها ليس بيدها ولم يعد بيد أهلها حتى.

وقد لا يكون "الحيار" في سن مبكرة، بل يأتي عندما تصبح الفتاة في سن الزواج، وهنا كثيراً ما تردد عبارة "ابن عمها أحق بيها" فإن حيرها أحد أبناء العمومة صارت له.

وإن تقدم شاب ما لخطبتها وهي غير "محيرة" يستشير الأب إخوته إن كان بينهم من يرغب بها لولده بادئاً بالأخ الأكبر منتهياً بالأقارب إن كان المتقدم غريباً ليس من العائلة.

ومن الجدير بالذكر أن "الحيار" في سن مبكرة هو جريمة بحق الشاب والفتاة معاً، ففي بعض الأحيان يلزم الشاب بالزواج من ابنة عمه وهو غير راغب بسبب "الحيار" ولكن الظلم الذي يلحق بالأنثى أضعاف مضاعفة لأن الشاب يمكن أن يتملص من الزواج منها أو أن يتزوج من غيرها، أما المرأة "فالحيار" من أمامها وإرث ثقيل من القهر الاجتماعي خلفها».

وفي حال أراد الأهل التملص من "الحيار" انحيازاً لرغبة الفتاة أو لأسباب أخرى وهذا نادراً ما يحدث: «إن وجد الشاب نفسه في مواجهة رفض الفتاة وأهلها فإن له أن يشترط دفع مبلغ من المال يسمى "رضوة" وتختلف قيمة المبلغ تبعاً للوضع المادي للأسرة ولجمال الفتاة أو لشدة تعلقه بها، ومن الجدير بالذكر أن قضية "الحيار" كانت تسبب مشاكل كبيرة تصل أحياناً إلى سفك الدماء خاصة إذا عرفنا أن ابن العم له الحق في استخدام "الحيار" حتى بعد خطبة الفتاة لشخص آخر بل حتى إن كانت تركب الفرس في طريقها إلى بيت زوجها».

وعن أكثر المناطق التي انتشر فيها "الحيار" التقينا الباحث "غسان رمضان": «"الحيار" عادة ارتبطت بالعشائر وبما أن المنطقة كلها- أي منطقة الفرات- بريفها ومدنها تعتبر امتداداً لهذا الوضع العشائري فقد انتشر "الحيار" في البادية والريف والمدينة ولكن بدأت هذه العادة بالاندثار واختفت من المدينة منذ حوالي نصف قرن تقريباً بسبب انتشار الوعي الديني لكون "الحيار" لا يتفق مع الشرع الإسلامي لما فيه من إكراه الفتاة على الزواج ممن لا تريد، وكذلك انتشار الوعي الاجتماعي خاصة بعد تعلم المرأة ودخولها سوق العمل، بالإضافة إلى الوعي الصحي والتعرف على كثير من الأمراض التي تنتقل نتيجة زواج الأقارب، كما بدأ بالاختفاء من الأرياف إلا أننا قد نجد له بعض الآثار في بعض القرى مثل قرى بلدة "الصور" وهذه الآثار نلاحظها في المشاجرات العائلية حيث يرغب أحدهم بالزواج من ابنة عمه وحين ترفض يعلن بأنه لن يتزوجها أحد غيره وهذا شكل من أشكال "الحيار"».

ومن الجدير بالذكر أن الاعتقاد السائد أن الرجل هو المؤيد الوحيد "للحيار" لكونه المستفيد الأول منه غير دقيق، فمن الغريب أن نجد بين النساء من هن متحمسات له أكثر من الرجال، السيدة "فرحة جدعان" عبرت عن هذا الرأي بالقول: «كل العادات الاجتماعية التي تعتبر سلبية بعد أن نحاربها وتنتهي نكتشف أن لها محاسن وايجابيات انتهت معها "فالحيار" مثلاً كان يؤدي إلى قلة حالات الطلاق لأن الزواج فيه يتم بين الأقارب ما يؤدي إلى وجود اعتبارات اجتماعية كثيرة تحول دون الطلاق، بالإضافة إلى تقوية الروابط الأسرية في العائلة وحصر المشاكل التي تتعلق بالإرث».

المرجع:

  • قبائل بدو الفرات، الليدي آن بلنت، ص 360، 361، 362.

  • الصورة الرئيسية لوحة للفنان التشكيلي "عبد الجبار ناصيف"