وادي "الفرات" إحدى بقاع هذا الوطن الثري والعابق بالتاريخ، على ضفتيه فرش الإنسان السوري القديم أحلامه وأرخى لمجده العنان تاركاً لنا، نحن الأحفاد، ما نتباهى به وما يجعلنا نفخر بهذا النضج المبكر، نضج التاريخ والهوية.

و"بقراصا"، وهي التسمية العلمية لتل بقرص الأثري، الذي يبعد عن مدينة "ديرالزور" مسافة 40كم، ما زال شاهداً على هذه الحقيقة التاريخية، إذ تظهر التحريات الأثرية وجوده في الفترة المقابلة لظهور "دمشق"، وتحديداً في مواقعها (تل الرماد- تل أسود- العرنية) في الألف السابعة قبل الميلاد، أي في الفترة المسماة بالعصر الحجري الحديث.

هذا صحيح، علماً أن دراسة الفنون القديمة واستخدامها بسويات علمية أعلى يفيد جداً الباحثين والآثاريين، وخاصة في حال فقر أو غياب الوثائق الأخرى، فالنشاط الفني أحد الأشكال الهامة للتأريخ، وهو مستخدم، ولكن مازال ضمن النطاق العلمي والأكاديمي

قيل وكتب الكثير عن "بقراصا"، وقد اعتبرها الآثاريون واحدة من أقدم مدن التاريخ، لكن أهميتها الأخرى تكمن في جوانب هامة لم يسلط عليها الضوء كثيراً، وقد تراجع الحديث عنها مقابل التركيز على تفاصيلها المدنيّة وتاريخيتها وتحقيبها وأشكال نشاطها الاجتماعي، من هذه الجوانب التي تحتاج اليوم إلى الانتباه يبدو النشاط الفني في المقدمة، خصوصاً وأن البحث فيه قد يقود إلى إحداث (انقلاب) في مفاهيمنا الخاطئة عن العصر الحجري.

رسوم جدارية

حول المكتشفات الفنية في "بقراصا" وأهميتها الفنية والتاريخية، التقى eDair alzor بتاريخ (1/2/2009) مع الفنان التشكيلي "عبد الجبار ناصيف"، وكان لها معه الحوار التالي:

  • تاريخ الفن القديم في "سورية" بقي بشكل عام ثانوياً وأكاديمي الطابع، قياساً إلى الجوانب التاريخية الأخرى، كالبحث في الحقب والنشاط الزراعي والمدني والعسكري وغيرها، ما رأيك؟
  • رأس سلحفاة

    «هذا صحيح، علماً أن دراسة الفنون القديمة واستخدامها بسويات علمية أعلى يفيد جداً الباحثين والآثاريين، وخاصة في حال فقر أو غياب الوثائق الأخرى، فالنشاط الفني أحد الأشكال الهامة للتأريخ، وهو مستخدم، ولكن مازال ضمن النطاق العلمي والأكاديمي».

  • كان الاعتقاد السائد أن العصر الحجري قد اتسم بفن بدائي لا يعول عليه كثيراً، إلا أن لـ (بقراصا)، على الفرات، كلام آخر فيما يتعلق بمكتشفاتها الفنية، ما قولك؟
  • لفنان عبد الجبار ناصيف

    «هذه حقيقة، فقد غيّر لنا الفنان السوري القديم في "بقراصا" تصوراتنا الخاطئة عن العصر الحجري، حيث أثبتت التنقيبات وجود فنون متطورة أرست أولى دعائم الحضارة وأثرت في الأجيال اللاحقة.

    إذ شكّل إنسان "بقراصا" التماثيل الصغيرة من الحجارة والطين والعظام، كما صنع من الحجارة النادرة الحلي والقلائد الجميلة، وزيّن بيته من الداخل برسوم جدارية ملونة، أجاد فيها التعبير عن نفسه ومكنوناته، وراعى فيها التناسب والقيم الشكلية، كما ترك لنا أواني وكسر فخارية مزينة بأشكال هندسية وخطوط متعرجة، كما تم العثور على آنية حجرية كلسية متقنة الصنع وأخرى مصنوعة من الجص، معروفة اليوم لدى الآثار يين باسم الآنية البيضاء.

    كذلك تجلى تقدم "البقرصيين" من خلال الّدمى التي تمثل الإنسان والحيوان والتمائم المزخرفة والأختام المشابهة لأختام رأس شمرا.

    ومن الطين صنع فنانو "بقراصا" التماثيل المختلفة للرجل والمرأة، واهتموا بإبراز الأرداف والصدر والذراعين، حتى بدت كأنها واقعية، إضافة إلى اهتمامهم بتشكيل الرأس، فجاءت أعضاء الوجه كاملة، كما اهتموا بتصوير الحيوان، فوجدت أواني مختلفة على شكل أرنب أو قنفذ أو غزال،

    هذه المكتشفات تدل على غنى الحياة الروحية لهذا الإنسان، وهي دليل على مدى المسافة التي كان قد قطعها بعيدا عن حياة الكهوف ومتطلباتها الشاقة والبدائية».