كان يحلم بالطيران منذ الطفولة، وكان يعشق اقتحام السحاب، فتحقق حلمه عندما التحق بالكلية الجوية، وكان النسر السوري الذي بدد سراب العدو في حرب "تشرين التحريرية"، فنال وسام بطل "الجمهورية".

«ولدت يوم عيد الشهداء، وواجهت الشهادة، وتمنيتها في سبيل الدفاع عن وطني، لم أنلها، لكنني نلت تحرير النفس الأبية، تحرير الخوف من جيش ادعى أنه لا يقهر، قهرناه، حطمنا سلاح الجو الذي كان يفاخر به».

أصيبت طائرتي، وقفزت بالمظلة التي لم تسعفني كثيراً فقد تعرضت للحرق أيضاً، وسقطت على الأرض من ارتفاع /1300/ متر، وأصبت بخمسة وثلاثين كسراً في مناطق مختلفة من جسدي

هذا ما قاله العميد الطيار المتقاعد "أديب الجرف" لمدونة وطن "eSyria" متحدثاً عن ذكرياته مع الطيران، وكيف خاض مع رفاقه حرب "تشرين التحريرية".

وسام "اديب الجرف" بطلاً في حرب 73

بداية حدثنا عن طفولة ابن الريف، وأحلام الفتى الذي عشق الطيران، قال: «كنت أسير من قريتي "الصفاوي" إلى مدرستي في "سلمية" قاطعاً مسافة ثماني كيلومترات في زمن ساعة وربع الساعة، هذا الزمن كان بالنسبة لي طبيعياً، عندما أصبحت طياراً وجدت نفسي أقطع ذات المسافة بثوان معدودة، وبسرعة تفوق سرعة الصوت، كنت أسرع من الرصاص. جميلة قريتي، ومدينتي "سلمية" وجميلة "سورية"، كانت وستبقى تستحق أن ندافع عنها، وسندافع عنها وإن خط الشيب رؤوسنا، مذ كنت طفلاً كنت أحلم بالطيران، ولو خيرت بأي شيء غير ذلك لما قبلت، عالمي الفضاء الرحب، وقد حققت ذلك».

لذلك وجد نفسه دون إذن منه يتجه إلى الكلية الجوية، لكن إن كان يحب السماء، والتحليق عالياً، لماذا اختار الطيران الحربي، بدلاً من المدني، هنا يقول: «الفرق كبير بينهما، وأنا أقدر المهمة الصعبة والمسؤولية الكبيرة التي يتحملها الطيار المدني، لكن من يخوض حرباً جوية يدرك وجهة نظري، فأنا لا أشعر بالطيار المدني إلا كسائق سيارة عادي لكنه يسير في السماء رغم صعوبة مهمته، فهي مهنة تسير حسب جداول، وطرق، أما أن تكون طياراً حربياً، فهذا يعني أنك تملك السماء.. في طيارتي كنت أشعر بالحرية، وهذا كاف».

الرئيس حافظ الأسد يقلده وسام الجمهورية

عن عالم الطيران، وما هو شعوره وهو يحلق فوق مدن وطنه، يقول: «إنه شيء فوق الوصف، أشبه بالخيال، أنظر إلى الأرض من أعلى، فأشاهد المدن كتلاً مبعثرة من "البيتون"، الأوتسترادات أراها كخيط رفيع، كنت حينها أتساءل: (إذا كنت على ارتفاع 65 ألف قدم أشاهد كل شيء صغيراً، فكيف يرانا رب العالمين من عليائه؟)، عندما تحلق بطائرتك، يعني أنك تعيش الحلم، الخيال، والواقع، والكل مجتمعين يشكلون ذات الطيار التواق إلى الحرية، للدفاع عن وطنه، وأهله، في السماء أنت إنسان مختلف».

أما أجمل اللحظات التي عاشها وهو طيار، فذكرها قائلاً: «بالتأكيد هي لحظة تحقيق الهدف الذي أسدد نحوه، وبالنسبة لي كانت لحظة ضغطتُ الزناد وأسقطتُ طائرة "الفانتوم" الإسرائيلية فوق "بيروت" وكانت ضمن رتل يتجه لقصف "دمشق" فأحبطنا مخططهم، وما فكروا به».

هنا يقودنا الحديث إلى أتون الحرب، وكيف أسقط سبعاً من سلاح جو العدو الإسرائيلي، قال: «كل طائرة أسقطتها مسجلة على شريط فيلم سينمائي موجود في طائرتي: طائرتان من نوع "ميراج" فرنسية الصنع، وخمس طائرات "فانتوم F4"، أسقطت اثنتين الأولى فوق "الرملة البيضا" في "بيروت" والثانية على طريق "بيروت- بكفيّا"، وطائرة "الفانتوم" تعني بالعربية "الشبح أو السراب" لكن الطيار السوري كان الإعصار الذي بدد هذا السراب».

«وداعاً أيتها الحياة، أيتها الأرض، أيها الوطن» عبارة رددها لحظة بدء الحرب، وهنا تابع قائلاً: «عندما تشترك في حرب، فهذا يعني أنك معرض لكل الاحتمالات، والموت أولها، لكنني كنت أطلب الموت، فوهبت لي الحياة (كما قالها القائد العام للثورة السورية الكبرى المغفور له سلطان باشا الأطرش)، كنت ورفاقي في سلاح الجو نتبع أسلوب الدخول الصاعق، وهذا ما كان يربك الطيار الإسرائيلي، كنا نقرأ في عيونهم هلعهم، وارتباكهم، ما اضطرهم للهرب، يومها تحررت إرادة المقاتل العربي».

وعن استراتيجية الطيار السوري في حرب "تشرين" يقول العميد "أديب الجرف": «استطاع المقاتل السوري أن ينتصر في الحرب، ولم يأت هذا النصر مصادفة، فلا مكان للحظ في المعركة، الشيء الأساسي هو التدريب الجيد، الاستعداد المتين، تعاون رفاق السلاح، فضلاً عن الاستخدام الجيد والصحيح للسلاح، هذه هي استراتيجية المقاتل السوري التي صنعت النصر».

رأيه بالطيار السوري أيام حرب "تشرين التحريرية" يكتنفه الفخر والثقة، يقول الطيار "أديب": «لا أخفيك، فالبعض كان يعيش الوهم، وهو أن الطيران السوري لا يستطيع مجابهة "الفانتوم" الأميركية، وكانت أحدث طائرة حربية في ذلك الوقت، عندما انطلقت المعركة بإرادة سورية، شعرت كم نحن أقوياء، لا أستطيع وصف العدو بالجبان، ولن أقول إنه ذو قوة خارقة لا تقهر كما اعتقد العرب لسنوات، فقط سأقول عبارة تختصر حقيقة ما صنعناه في حرب "تشرين": "عدونا جبان بقدر ما نحن شجعان"».

وتوقف عن الطيران نتيجة الإصابة، وعنها تحدث بالقول: «أصيبت طائرتي، وقفزت بالمظلة التي لم تسعفني كثيراً فقد تعرضت للحرق أيضاً، وسقطت على الأرض من ارتفاع /1300/ متر، وأصبت بخمسة وثلاثين كسراً في مناطق مختلفة من جسدي».

عن مرحلة التقاعد قال: «الموت وحده يعني تقاعد، لا أعرف الكلل، أمارس الرياضة يومياً وبلا انقطاع، أعيش في مزرعتي حيث أراقب أكبر قدر من السماء، أنا الذي اعتدت أن أشق عباب السحاب يوماً، أتواصل مع رفاق السلاح، نتهاتف، نتواصل، نتذكر الأيام الخوالي، لدي هواية الرسم "بالرصاص والفحم"، أعيش اليوم في مدينتي "سلمية" وفي مزرعتي مزارعاً نشيطاً، كما أنني أنجزت كتابة مذكراتي عن حرب "تشرين التحريرية"».

في كل مرة كانت تمر طائرة حربية منخفضة فوق مدينة "سلمية"، كان أهلها يشيرون إليها ثم يقول معظمهم: «إنه أديب الجرف». كان للفتى القادم من هذه المدينة عشق اقتحام السحاب، ليخيّم رعباً على سلاح الجو الإسرائيلي في حرب "تشرين" /1973/، فكانت الحصيلة أن وضع 7 طائرات من سلاح جو العدو في سلة المهملات وإلى الأبد، حيث أسقطها فوق "بيروت" وفوق الأراضي السورية، فاستحق لقب "بطل الجمهورية العربية السورية".

هو "أديب عجيب الجرف" من مواليد "سلمية" في 6/5/1946، أب لثلاثة أبناء، أكبرهم "فراس" وهو طبيب أسنان، و"أسامة" مساعد مهندس إلكترون وابنته الوحيدة "لمى" صيدلانية.

اليوم يحرث الأرض كي تعطي ثماراً بطعم الانتصار، وهو الذي بقي لسنين طويلة يحميها من السماء.

  • تاريخ اللقاء يوم الثلاثاء 24/2/2009.