بين الشغف بالشعر والكلمات الأدبية خلق "يوسف برازي" الذي وصفه الكثيرون من جيله بعاشق الكلمات وملهمها الروحي، حيث ترك لنا "برازي" كتباً ودواوين امتازت- كما يقال عنه- بعمق علاقته الروحية بالمجتمع والحياة بعمق كبير.

موقع eHasakeh وللحديث حول حياة الشاعر والكاتب الكبير "يوسف برازي" التقى الفنان والملحن "محمد علي شاكر" ليحدثنا قائلاً: «كان "بي بهار Bêbuhar" إلى جانب ملكته الشعرية، موسيقياً بارعاً يعزف على أكثر من آلة موسيقية، وكان مطرباً طليّ الصوت، وملحناً مطبوعاً على الأداء الممتع في جميع ملكاته، وكان صاحب أذن موسيقية مرهفة، مغرماً بالموسيقا إلى حدود العشق.

جل أعماله كانت تحمل مضامين مختلفة تنهج في الشعر طرائق شتى تعالج المسائل الإنسانية والوطنية، وتبرر أحاسيس الشاعر النفسية وتضع بين أيدينا مكنوناته وعواطفه الجياشة وحبه العميق للإنسان أينما كان هذا الإنسان

وكان من دأبه أن يمنح قصائده وألحانه لمطربي ومغني ذلك العهد وفي مقدمتهم الفنان "محمود عزيز شاكر" والفنان "سعيد كاباري" و"محمد شيخو" وآخرون مثل "زبير صالح"، ومما لا ريب فيه أنّ كثيراً من ألحانه نُهبت وانتشلها بعض المطربين والمغنين في تلك الحقبة وعزوها إلى أنفسهم إذ لم يكن يوجد آنذاك ملمّون أو ذوو خبرة ومراس بالتلحين وأساليبه، في تلك الحقبة التي كانت الأغنية "الكردية" قد فقدت أصالتها وانحدرت إلى الحضيض بعد خلو الساحة الغنائية من عباقرة الأغنية وهم الرعيل الأول الذين ارتقوا بالأغنية "الكردية" إلى أعلى المراتب والدرجات مثل "عارف جزراوي" و"كاويس آغا" و"شاكرو" و"كربيت خاجو" الأرمني الأصل و"عيشه شان" و"مريم خان"، وبعد هؤلاء غابت وفرغت ميادين الطرب لتهبط الأغنية هبوطاً ذريعاً لحناً وصوتاً وأداءً ومعنىً، وظل الأمر كذلك حتى حل الزمن الذي ظهر فيه الشاعر "يوسف برازي" والملقب "بي بهار" الذي أعاد إلى الأغنية رونقها وألقها وبث فيها الروح بعد موتها، لتنتعش وتسير بخطوات حثيثة تجدد تراث الرعيل الغابر وتحاول أن تضيف إليه شيئاً جديداً وتتجاوزه إلى الأفضل، لذا فمن الطبيعي أن نسوّغ لأنفسنا القول بأن الشاعر "البرازي" هو المجدّد الحقيقي للأغنية "الكردية" التي تبوأت الآن مكانة رفيعة، ولا ندري كم كانت هذه الأغنية ستظل رهن التشتت والركاكة لو لم يُقيّض لها هذا الرجل الذي أنقذها بعبقريته من الوهن والبلادة وألوان الهوان التي لحقت بها في تلك الأيام».

الكاتب والشاعر يوسف برازي

الكاتب "إبراهيم اليوسف" في أحد حواراته يقول في "برازي": «أتذكر أنني في العام (2003) قمت بإجراء حوار مطول معه وكان معي آنذاك عدد من الأصدقاء وأسرة الشاعر، وكان هذا الحوار قد تم في إطار توثيق محطات إبداعية في حياة الرّجل الكبير، وهو ما اعتبرته خسارة كبرى إلى جانب سلسلة خسارات كبيرة في حياتي، بل خسارة عامة لا شخصية فحسب، ولن أنسى زيارته لمنزلي ومداعبته الشعرية لأولادي الصغار وحثهم على العلم والمعرفة، لقد خسرنا برحيل الشاعر الكبير "بي بهار" آخر عمالقة القصيدة الكلاسيكية الكردية، مبدعاً من طراز استثنائي اجتماعياً صلبا فذاً وإنسانا رقيقا مخلصاً في أسمى الصور، طالما أفرغ روحه على ورقه كما كان يشعر وكان ذا قلب طفولي يشفق على البؤساء والمساكين ولم يخل من الإباء والشموخ والشجاعة ورحابة الصدر والحكمة والأقوال المأثورة، فطوبى لأرض "رأس العين" وهي تحتضن جسده، وطوبى لروحه التي ستظل خالدة في ضميرنا، فأذكر أنه أعلمني قبل اشتداد قبضة المرض اللعين عليه بأيام قليلة أنه بصدد طباعة ديوانه، وهو ما أرجو أن يقوم به من بعده الغيارى على أدبنا وتراثنا وتجربة شاعرنا، ولكم أشعر الآن بالفخر كواحد من أسرة جائزة الشاعر "جكرخوين" في أن يكون شاعرنا "بي بهار" ثاني من تم منحهم تلك الجائزة الرمزية».

الشاعر "دلاور زنكي" في أحد مقالاته بوصف "يوسف برازي" يقول: «منذ يفعي وصبائي وفتوّتي الأولى ظل سؤال غريب يراودني ويخامر إحساسي وما زال ملحاً في مراودتي حتى الآن، وهو شغفي لمعرفة الشعراء الفطاحل الكبار من أمثال الشعراء اللامعين "جكرخوين" و"تيريز" و"بي بهار" وسواهم ومخالطتهم والإصغاء إليهم ومحاورتهم، حتى العام (1984) عندما أرادت الصدفة أن تلقيني في معرفة الشاعر الكبير "يوسف برازي" وذاكرتي حافلة ببعض قصائده التي وردت على أفواه المنشدين والمطربين المبدعين لعدم نشره أي ديوان حتى هذا الزمن، حيث جاءني زائراً في صحبة المطرب "محمد شيخو" وفي تلك الفترة كان الشاعر "تيريز" يقيم في منزلي ضيفاً، فلما قُرِعَ الباب هرعت لاستقبال الطارقين ولما فتحت الباب برز أمامي الصديق الفنان "محمد شيخو" يرافقه "البرازي" حيث كان ذو جسد قوي البنية لا تقتحمه العين، على محّياه بشاشه وعلى شفتيه ابتسامة يرتدي ملابس قشيبة على غاية من الأناقة، فرحبت بهما ترحيباً عظيماً وفرحت وبلغت سعادتي ذروتها للقائه، وكنت شديد التوق إلى رؤيته والإصغاء إلى ترانيمه الشعرية وشخصيته الفذة التي كنت أتصورها شخصية فريدة أقرب إلى الأسطورة، لقد شعرت بأنني أحلق في سماء المسرات والفرح والسعادة، فها هي ذي تسعى إليّ على قدميها مسربلة بمنديل من الحرير على طبق من ذهب غنيمة باردة أشد إليها الرحال لأشكر الأقدار التي أتاحت لي هذه السانحة وحققت لي هذه الأمنية الغالية، فهو رجل متعدد المواهب يكتب الشعر والدواوين ويلحن وحتى حنجرته دهشت بها وهي تطلق العنان لصوت بلبل رنان، ليراودني فضول أن اسأله سؤالاً: لماذا لا تغني وأنت صاحب هذه الحنجرة الذهبية وتمتلك جميع مقومات الطرب والوسائل الفنية من تأليف وتلحين وعزف؟ فقال: كان من الممكن أن أسير على هذا النهج وأفعل ذلك منذ أعوام طويلة خلت، غير أن المجتمع آنذاك لم يكن ينظر إلى هذا اللون من الفن بعين الرضى والقبول، وكان يستاء من كل عمل يمت للفن بصلة، ولذلك اضطررت إلى العزوف عن الغناء باعتبار أنه ترفاً ومضيعةً للوقت، ومع ذلك رفضت أن تحل القطيعة بيني وبين الغناء والتلحين والعزف، فأنا أغني وأعزف كلما خلوت إلى نفسي أشفي بذلك غليلي وأخفف عن شجوني وأنا أبث الآلة الموسيقية شكيتي وآلامي».

الفنان والملحن محمد علي شاكر

"شوكت برازي" أبن أخ "يوسف" حدثنا عن عمه قائلاً: «هو "يوسف برازي" أبن "علي شيخو" وُلِد عام (1931) في قرية "تل جرجية" التابعة لمنطقة الباب بمحافظة "حلب" عاش طفولة فقيرة وظروفا اجتماعية قاسية، انتقل مع عائلته إلى مدينة منبج عام (1947) ومن ثم إلى مدينة "رأس العين" التي تبعد عن "الحسكة" (85) كيلومترا، وفي الخامسة والعشرين من عمره تعلم اللغة "الكردية" وقواعدها على يد الشاعر "رشيدى كورد" وكذلك ألم ببحور الشعر على يد الشاعر الكبير "جكر خوين"، عمل يوسف برازي (بى بهار) في حياته كحلاق في مدينة سرى كانيه (رأس العين) وتمتع واشتهر بروح النكته والفكاهة إلى جانب سرعة البديهة تجاه المواقف والأحداث، كان يسير الحال لم يجمع أي ثروة.

بحكم قربي من عمي وافكاره كان يعتبرني مثل ولده وكان يحدثني كثيراً عن مسيرته في الحياة ويشجعني على العلم والابتعاد عن كل طرق الجهل، كان يحدثني عن شبابه وزمنه الذي كان الكتاب والمثقفون نستطيع تعدادهم على الاصابع، حيث كان يطغي الطابع العشائري على المنطقة، لذا كان يقول لي جيلكم يوفر فيه كل شيء، لم يعد يوجد بيت إلا وفيه مثقف يمارس ثقافته، ومع ذلك مازال القلة يحافظون على لغتنا "الكردية" أرى أنه من واجب مثقفينا أن يعلموا الجيل الجديد هذه اللغة وأن يكتبوا بها.

الشاعر يوسف برازي يلقي شعره في إحدى المناسبات

كان عمي إنسانا ملما بقضايا الوطن محباً ومقداماً في خدمته، وكان يتأثر كثيراً بالقضية "الفلسطينية" ويدافع عنها، كتب قصائد عدة متنوعة لها تأثيرها المدوي وعمل على بث روح الثقافة في نفوس أبناء جلدته لمقارعة الحياة والسير في ركب الحضارة، وواجه بشعره سوء العادات الاجتماعية البالية والصفات الدنيئة إلى جانب تشجيعه للعلم وحض الشباب على نيل الشهادات أملاً منه في انفتاح شعبه ووعيه، وكان ملماً ومحباً لعمل الإعلاميين ويقف لجانب هذه المهنة وقلمها الحر، بدأ الكتابة عام (1943) وأول قصيدة له هي "هبس وزندان"، تأثر بعدد كبير من الشعراء والمثقفين والمطربين أمثال "أم كلثوم" و"محمد عبد الوهاب" و"فريد الأطرش"، نال جائزة مئوية الشاعر "جكرخوين"، وعلى الرغم من هموم الفاقة ومشاغل الحياة اليومية والتفافه إلى كسب قوته والخوض في غمار العمل كان غزير الإنتاج وكأنه يمتح من منهل لا ينضب».

يتابع "شوكت": «جل أعماله كانت تحمل مضامين مختلفة تنهج في الشعر طرائق شتى تعالج المسائل الإنسانية والوطنية، وتبرر أحاسيس الشاعر النفسية وتضع بين أيدينا مكنوناته وعواطفه الجياشة وحبه العميق للإنسان أينما كان هذا الإنسان».

ومن أعماله المنشورة:

  • الديوان الأول "Zindan" عام (1988).

  • الديوان الثاني "Bang" "النداء" عام (1997).

  • الديوان الثالث "Raperîn" عام (2002).

  • الديوان الرابع "serxwbon" عام (2005).

  • الديوان الخامس "Pêketin" عام (2007) صدر عن مؤسسة "سما".

  • يذكر أن الشاعر والكاتب الكبير "يوسف برازي" أو "بي بهار" توفي صباح يوم "الخميس" (15/1/2009) في مدينة "رأس العين".