«من رحم التاريخ آتٍ ومن تراث الوطن وحميميته، حوَّلت مواطنيتَه، حياته، وأعماله في المغترب إلى إبداع فني هام يغتني به الوطن ويشمخ بعد وفاته، ليساهم في إغناء حياة الأجيال الصاعدة من بعده، تتمثل طموحه لنيل أوسمة الشرف التي نالها، والسمعة الطيبة الرائدة التي حفلت بها سيرته.
ذلك هو فنان "حمص" الراحل: "جوزيف أنطونيو طرابلسي" الذي وافاه الأجل في الأسبوع الأخير من شهر نيسان عام /2002/ عن عمر يناهز التسعين عاماً وهو لا يزال ينبض بمشاعر الإبداع والأمل في زيارة مسقط رأسه "حمص" لتكون مثواه الأخير».
نحن في مجلس إدارة رابطة أصدقاء المغتربين نسعى مع مجلس المدينة لإيجاد صالة خاصة لعرض لوحات الفنان "طرابلسي" لتكون نواة لمتحف للفن الحديث، وهذا أمر هام وضروري أن يكون في "حمص"
هذا ما كتبته الأديبة "سميرة رباحية طرابلسي" عن الراحل في مقدمة مقال نشر في جريدة "حمص" في أيار من عام /2002/.
ولد الراحل "طرابلسي" في "حمص" عام /1912/ وفي عام /1930/ هاجر مع عائلته إلى مصر: «أدرك الراحل أن الفن يلعب دوراً مهما في المجتمع فاحتلّ مكانه عن جدارة، وأضحى ظاهرة تشكيلية استفادت من جيل الرواد وخاصة بعد تخرجه في كلية الفنون الجميلة في مصر وتطوير أسلوبه الفني، واكتسابه مهارات عالية على يد أستاذه الإيطالي "زانييري" الذي درّبه على أهمية دراسة الألوان وتشريح الجسم البشري».
كما تضيف الأديبة "سميرة" في مقالتها: «زينت لوحاته متحف القصر الملكي في "القاهرة" و"الإسكندرية" وفي معرض الحكومة المصرية، فكرمته الدولة المصرية ومنحته الوسام الذهبي عام /1938/ وسمي بعدها رساماً رسمياً للقصر الملكي، وبرعاية من المقدرين لفنه اشترك بمعرض "فينيسيا" عام /1940/ في إيطاليا، وبمعرض "ميسينا" عام /1951/».
وتذكر الأديبة "سميرة طرابلسي" أن «الانعطافة الثانية المهمة في حياة الفنان "جوزيف" يوم شدّ الرحال إلى البرازيل عام /1953/، شاقاً بصمت طريقاً، ليعتلي بعد كفاح مرير مع الغربة سدة النجاح والقمة الشمّاء الثانية حيث فاز بمسابقة تزيين جدران الكاتدرائية الأرثوذكسية وإعادة الطابع البيزنطي لها برسوم مستوحاة من خياله الخصب، ومن القصص الدينية، وفاز أيضاً برسم أشهر شخصيات رجال الفكر في "سان باولو" البرازيل التي استقر فيها وتزوج من السيدة العربية الأصل "أديل أسطفان خوري" التي ساعدته للوصول إلى سدّة النجاح».
عرضت لوحاته في معرض بـ"باريس"، وكرمته اللوكسمبورغ بوسام "صليب الإحسان" وتم التقليد في "سان باولو" في 18/12/1993
وبموهبته الفذّة استطاع أن يجسِّد أعظم اللوحات فأقام المعارض المتعددة في البرازيل وفرنسا وإيطاليا وأثيوبيا والسعودية وسورية، وحصل على الأوسمة الذهبية والفضية، وشهادات دبلوم كرئيس شرف من مختلف الجمعيات الفنية والثقافية والعلمية في "سان باولو" وغيرها، والتي بلغ عددها أكثر من ثلاثين وساماً وشهادة تقدير.
شهد مرسمه نجاحاً على الصعيدين الاجتماعي والفني حيث أصبح ملتقى الكتاب من المغتربين الفنانين والمفكرين العرب والأجانب، وقناصل الدول العربية والأجنبية حيث تسابقوا لاقتناء لوحاته التي تميزت بالحداثة والموروث الشرقي الأصيل.
وعن العطاء الفنان "طرابلسي" لمسقط رأسه "حمص" تضيف الأديبة "سميرة": «استطاع أن يحقق أجلَّ وأسمى تواصل مع مسقط رأسه وتوءم روحه فيها، فأهداها خمساً وعشرين لوحة، بعضها يجسّد معالمها الأثرية ورموزها الفنية الرائدة، كلوحة الشاعر "ديك الجن" وشاعر الموشحات التراثية "أمين الجندي" و"طاحونة الميماس"، وغيرها، كانت وديعة غالية ضمت في متحف "حمص" وسميت "قاعة الفنان جوزيف طرابلسي" لتشهد على وطنيته وعالميته في الرسم، وكرمته الهيئات الثقافية الرسمية وزارة الثقافة ومجلس مدينة "حمص" الذي أهداه درع المهرجان الثقافي السادس عشر في حفل مهيب في 15/9/1997 وقدمت له نقابة الفنون الجميلة شهادة تقدير وفاء منها لفنه الرفيع ولريادته في مجال الفنون التشكيلية وعدّته عضواً فخرياً فيها».
وللتعرف أكثر على الجانب الاختصاصي الفني في حياة وفن الراحل "طرابلسي" التقينا الفنان التشكيلي "بسام جبيلي" الذي أجرى دراسة نقدية معمقة لأعمال وفن هذا المبدع، فتحدث قائلاً: «كان الفنان "طرابلسي" من جيل الفن الحديث في العالم، كان تحت تأثير المدرسة الانطباعية التي كانت المدرسة التقدمية الأولى في بداية القرن العشرين، فكان الفنان "جوزيف" مستوعباً أدواته بطلاقة وبحب ضمن المدرسة الانطباعية، لكن المهم في مسيرته الفنية أنه انحرف عن الانطباعية إلى مدرسة جديدة ظهرت في ألمانيا هي المدرسة التعبيرية، فاستطاع أن يؤقلم بين المدرستين بقدرته الأصيلة المبنية على الكلاسيكية».
وأضاف "جبيلي": «يمكن أن نعتبر "طرابلسي" من رواد الفن الحديثين في سورية، لأنه اشتغل بالمدرسة الانطباعية بطريقة متقدمة، تنم عن ثقافة واسعة ومتنوعة، هذه الثقافة خلقت لديه رهافة في التعامل مع الحياة ومع الفن بنفس المستوى، واللون في لوحاته ليس محصلة للواقع الذي يراه وإنما هو نوع من إعطاء الأشياء بريقها الخاص الذي يضيف عليها عنصر الجمال، فهو ملك التجاور اللوني، فمهما كان اللون الذي يستعمله في لوحاته فإنه يستطيع خلق التجاور اللوني المناسب في اللوحة والمنسجم مع الألوان الأخرى».
وختم الأستاذ "جبيلي" حديثه: «نحن في مجلس إدارة رابطة أصدقاء المغتربين نسعى مع مجلس المدينة لإيجاد صالة خاصة لعرض لوحات الفنان "طرابلسي" لتكون نواة لمتحف للفن الحديث، وهذا أمر هام وضروري أن يكون في "حمص"».
يذكر أنه تكريماً للفنان التشكيلي الحمصي الراحل "جوزيف طرابلسي" أقيم بالتعاون بين مجلس مدينة "حمص" واتحاد الفنانين التشكيلين بحمص معرض لأعمال الفنان الراحل بتاريخ 20/8/2009 في صالة الشعب للفنون التشكيلية، وضم ستاً وعشرين لوحة من لوحات الفنان الراحل التي أهداها إلى مدينته "حمص".
وتجدر الإشارة إلى أن الفنان "طرابلسي" لديه لوحات معروضة في القصر الملكي بمصر وفي العراق وأبيسينيا، ولديه لوحات معروضة في السفارتين السورية واللبنانية في البرازيل.
وله لوحات في مجموعات خاصة في كل من "لندن" و"باريس" و"روما" و"استوكهولم" و"بغداد" و"نيويورك" و"كوبنهاغن" وسورية ولبنان وتشيلي والأرجنتين والبرازيل.
نال الوسامين الفضي والذهبي الأكبر في سان باولو عام /1976/.