منذ سنوات طويلة اختفت مهنة صاحب "صندوق الفرجة" من حواري وأزقة المدن السورية، ذلك الرجل الذي كان يحمل على ظهره صندوقاً خشبياً مستطيلاً يحوي عجائب الصور وغرائب القصص ويسير في الشارع أو ينصب كرسياً صغيراً في إحدى الساحات منادياً الأطفال نداءات شعبية طريفة بصوت أجش ولكنه صوت يبعث على الدهشة في عالم الصغار.

لقد أتت رياح التطور واستغنى العصر باختراعاته الكبيرة كالتلفاز والسينما والفيديو والستالايت عن هذه المهنة الجميلة.. دارت عجلات الحياة سريعاً فتجاوزت هذه المهنة وأهملتها وخلفتها لعوامل الزمن الجاحد والزوايا المهملة في متاحف التقاليد الشعبية رغم أن مؤرخي الفن المعاصرين يعتبرون "صندوق الفرجة" هو الأب الشرعي للسينما التي احتُفل بذكرى ولادتها المائة منذ أكثرمن عقد من الزمن وظل صندوق الفرجة المسكين قابعاً وحيداً في زوايا الإهمال ينتظر من يحتفل بموته أو ينفض عنه غبار النسيان.

بدأت مزاولة هذه المهنة منذ نصف قرن حيث كنت أعمل "حمَّالا" في "بيروت" وشاءت الصدفة أن أحصل على صندوقي هذا من قريب لي أعطاني إياه مقابل دين كان لي بذمته، وضعته أمامي ورحت أتأمله متعجباً محتاراً في كيفية تشغيله، ولم تَطلْ حيرتي إذ بدأت أنظر إليه من الداخل عبر نوافذه الزجاجية فرأيت صوراً عجيبة ومشاهد غريبة تجسد الكثيرمن القصص الشعبية التي كان كبار السن يروونها في سهرات العائلة.. وبدأت بتدوير الأسطوانتين الحاملتين للأفلام.. وكانت دهشتي كبيرة حينما تغيرت المشاهد وتبدلت الصور، وشيئاً فشيئاً تعلمت أبجديات المهنة وقررت أن أتابع مهنة الحمالة ولكنها "حمالة" من نوع خاص، سينما متجولة على الظهر يركض وراءها الصغار، وعالم سحري كالخيال يدهش الكبار أيضاً بعجائبه وغرائبه، وعدت إلى سورية مصطحباً صندوقي العجيب معي الذي تعلقت به كما يتعلق الإنسان بشيء عزيز عليه، رافقني في كل تنقلاتي ورحلاتي، وكنت أهتم به وأصونه وأرعاه كما يرعى الوالد ابنه البكر المدلل

كانت العملة نادرة و"الفرنك" عزيزاً وكان معظم الصغار يأخذون "خرجياتهم" بيضة أو مكيالاً من القمح أوالذرة يشترون بها حاجياتهم أو ينتظرون "صندوق الفرجة" يُنزل صاحب الصندوق أعجوبته عن ظهره، يضع مقعداً خشبياً أمامها كمقاعد المقاهي أوالمدارس، فيهرع الصبية إليه جماعات وفرادى يصطفون على المقعد متدافعين، ويحتضن كل واحد منهم دائرة زجاجية "يفرغ" فيها عينيه. تُكَّبر له الصور التي ينظر إليها، وشريط الصور الثابتة بألوانها الزاهية اللمَّاعة يبدلها صاحب الصندوق بخفة ورشاقة معلقاً على كل صورة لـ "عنترة أو عبلة أو الزير سالم أوالملك سيف بن ذي يزن أوالظاهر بيبرس أوحمزة البهلوان أوعلي الزيبق":

تعا تفرج يا سلام؟ على "عبلة أم سنان"

تعا تفرج، تعا شوف، هادا "عنتر" بزمانو

كان راكب على حصانو

هادي هيا الست بدور .. قاعدة جوا سبع بحور

الأركيلة كهرمان والتخت من ريش نعام

شوف حبيبي .كمان وكمان

عالم ملون

لا تزال تلك الصور على حالها في الخاطر، كأنها راسية في مرافىء الزمان القديم لا تغادر شواطىء الذاكرة... لا السينما ولا الفيديو ولا أطباق الدش استطاعت أن تمحو ذلك الشريط السحري من الخاطر، لكنها استطاعت أن تحيل "صندوق الفرجة" على المعاش لتنقرض تلك المهنة التي فتحت الطريق أمام الرؤية السينمائية المتحركة وليدة هذا العصر العجيب الغريب كـ "صندوق الفرجة" ذاته. ولا يعُرف على وجه الدقة الأصل التاريخي لهذه التظاهرة ولكن يبدو أن ظهورها قد بدأ في أواخر القرن التاسع عشر- عصر اكتشاف الطباعة الملونة- إذ أن صندوق الدنيا يعتمد بشكل رئيسي على الصور المطبوعة والملونة.

ويتألف صندوق الدنيا من صندوق كبير يرتكز على ثلاثة أرجل يحمل على الظهر وله فتحات بلورية (أربعة إلى ستة) يشاهد من خلالها صورملونة ملفوفة على لولب يدوي يدوَّره صاحب الصندوق فتتوالى الصور منمقة بحيث تتفق مع ما يرويه من قصص سرداً أوغناءً مرتجلاً تارة معيداً ما حفظه عن أسلافه تارة أخرى.

مهنة متوارثة

كانت مهنة صندوق الفرجة أيام زمان من المهن الأساسية المهمة في المجتمع حيث كانت تضم أعداداً كبيرة من المشتغلين بها وامتدوا إلى أجيال طويلة يسترزقون منها ويعيشون على دخلها رغم شحه، وينتشرون في أزقة الحارات القديمة باحثين عن أرزاقهم وغالباً ما يكون "الصنادقية " المتجولون أعضاء في أسرة واحدة يتوارثون هذا العمل عن بعضهم ويحدث كثيرا أن يوجد في مكان واحد الآباء والأبناء والأخوة وأولاد العم، ويتمرن الصبي مع والده أو أحد أقاربه ثم يستلم العمل لوحده بعد أن يتعلم أصول المهنة في تركيب الأفلام أو "تصنيعها" أحياناً وتدويرها في الصندوق وحفظ الأهازيج والقصائد الشعبية المرافقة عادة لهذه الصنعة.

"جمعة شلهوم" آخر صندوقاتي لا زال يعمل في هذه المهنة في سورية التقيناه أحد أيام عيد الفطر وهو يدور بصندوقه الأعجوبة في أحد أزقة "حمص" القديمة وبالكاد استطعنا تخليصه من بين جمهرة الأطفال الملتفين حوله.

عن رحلته مع صندوق الفرجة حدثنا قائلاً: «بدأت مزاولة هذه المهنة منذ نصف قرن حيث كنت أعمل "حمَّالا" في "بيروت" وشاءت الصدفة أن أحصل على صندوقي هذا من قريب لي أعطاني إياه مقابل دين كان لي بذمته، وضعته أمامي ورحت أتأمله متعجباً محتاراً في كيفية تشغيله، ولم تَطلْ حيرتي إذ بدأت أنظر إليه من الداخل عبر نوافذه الزجاجية فرأيت صوراً عجيبة ومشاهد غريبة تجسد الكثيرمن القصص الشعبية التي كان كبار السن يروونها في سهرات العائلة.. وبدأت بتدوير الأسطوانتين الحاملتين للأفلام.. وكانت دهشتي كبيرة حينما تغيرت المشاهد وتبدلت الصور، وشيئاً فشيئاً تعلمت أبجديات المهنة وقررت أن أتابع مهنة الحمالة ولكنها "حمالة" من نوع خاص، سينما متجولة على الظهر يركض وراءها الصغار، وعالم سحري كالخيال يدهش الكبار أيضاً بعجائبه وغرائبه، وعدت إلى سورية مصطحباً صندوقي العجيب معي الذي تعلقت به كما يتعلق الإنسان بشيء عزيز عليه، رافقني في كل تنقلاتي ورحلاتي، وكنت أهتم به وأصونه وأرعاه كما يرعى الوالد ابنه البكر المدلل».