عاشت مع الشعر رفيقاً وحيداً متمردةً على الحياة وقسوتها، وشكلت تجربتها الشعرية قصيرة العمر مفصلاً هاماً في تأريخ الشعر السوري الحديث فكانت أعمالها علامة مضيئة.

خلال حياتها التي بدأت عام 1937، أصدرت الشاعرة "دعد حداد" مجموعتين شعريتين، وقد وشت عناوينها بالاتجاه الشعري الذي ذهبت فيه الشاعرة، كما أنها ظهرت في الوقت الذي بدأت فيه ملامح قصيدة جديدة تتشكل في "سورية"، هذه الملامح حسب حديث للشاعر السوري "حسين عجيب" لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 20 تشرين الثاني 2013 هي: «امتداد لبدايات قصيدة النثر السورية الأولى التي ظهرت وانتشرت على يد "الماغوط" وجماعة مجلة شعر، وتابعها الشاعر "رياض صالح الحسين" وغيره، وأهم ملمح في هذه الانعطافة كان بشكل رئيسي الميل إلى التجريد».

كتبت الشعر باكراً وبدأت بالشعر الكلاسيكي المقفى ثم تحررت من بحور الشعر والأوزان واتجهت صوب الشعر الحر، أحياناً أكتب الشعر المقفى لكن لا أعرف كيف يتحول إلى قصيدة نثر

كتبت الشاعرة الشعر الموزون والمقفى، ومن ثم التحقت بقطار النثر ولا تحدد سبباً لانتقالها، فهي كما صرحت في حديث لها مع جريدة "تشرين" قبل رحيلها بأسابيع: «كتبت الشعر باكراً وبدأت بالشعر الكلاسيكي المقفى ثم تحررت من بحور الشعر والأوزان واتجهت صوب الشعر الحر، أحياناً أكتب الشعر المقفى لكن لا أعرف كيف يتحول إلى قصيدة نثر».

غلاف ديوان "تصحيح لخطأ الموت"

حمل عملها الأول عنوان " تصحيح خطأ الموت" 1981 عن وزارة الثقافة بـ"دمشق" وقد قدمه الراحل "أنطون مقدسي" بقوله: «حين نقرأ "دعد حداد" ندرك جيداً أنه لا شيء يعوضنا عن الشعر لأن الشعر الحق يعيد إلى العالم براءته. وبهذه المهمة الصعبة اضطلعت الشاعرة "دعد حداد" بنجاح، كذلك نزداد قناعة بأن الأوزان والقوافي مجرد أسطورة يتعلق بها الذين أعيتهم الحساسية الشاعرية.

كل كلمة ترتعش كما يرتعش جنح عصفور صغير يلوذ بصدر أمه، لأن "دعد" لم تتعمد أن تكتب شعراً، لكن يخيل لمن يقرأ المجموعة أن هذه الحساسية قد تحولت إلى موسيقا داخلية سرت في الكلمات، حتى أصبحت هذه أقرب إلى العلامات الموسيقية رغم ابتعاد الشاعرة عن كلّ إيقاع شكلي أو لفظي، وقد جاء العمل حسب بعض النقاد كرد فعل على موت أختها الشاعرة "نبيهة حداد" وقد ذكرتها في قصيدة تحمل عنوان المجموعة ذاتها -كتبت هذه المجموعة بين عامي 1976 و1977:

غلاف ديوان "كسرة خبز تكفيني"

"وحيدة هي هذه اللحظة

صورة أخرى للشاعرة

أكثر من أي وقت

والموسيقا لا تأتي

صعدت الدرج اللولبي

وأنّ الخشب تحت قدميها الثقيلتين".

في مجموعتها الثانية "كسرة خبز تكفيني" (دمشق 1981) استمرت الشاعرة بالتأكيد على الثيمات التي انطلقت منها، فكان ميلها إلى التجريد واضحاً في نصوصها، وتبدو الصورة الشعرية لديها في هذه المجموعة أقرب إلى مزيج تشكيلي يحتمل الحركة في نهاية مقاطع قصائدها دائماً، الأمر الذي يخلق لدى القارئ رغبةً في إعادة تخيل المشهد البصري للقصيدة:

"كضوء فراشة

مرّت الروح

كضوء فراشة

أمررتَ… يا أبي!

أمررت أنت… لوهلة؟".

وعن تجربة الشاعرة "دعد حداد" في ديوانها الثاني كتب الشاعر السوري المعروف "نزيه أبو عفش" في مجلة "ألف" العدد الثالث عام 1991: «امرأة لا تشبه إلاّ نفسها، تنفرد بين جميع من عرفت من الشعراء بكتابة بريئة من "آثار بصمات الآخرين"، شاعرة بامتياز، فوضوية بامتياز، كائن صنع من الفوضى، ليبشر بالفوضى، امرأة معجونة بالشعر، امرأة هي الشعر، وحدها التي تجرؤ على الإفصاح عن رغبتها المجنونة في تصحيح ما يرتكبه الموت، أو الحياة ربما من أخطاء، هي وحدها التي حين تقول: (كسرة خبز تكفيني) تكون مرغماً على تصديقها، كأنما لم تخلق ليكون لها شأن في العالم، أي شأن، لا في الشعر ولا في سواه، لو أمكن أن تطرح عليها سؤالاً ما، يتصل بالمشهد اليومي لحياتنا، لأجابتك بكل بساطة: "أنا يائسة من هذا العالم"».

تُفصِّل الشاعرةُ قصائدَها على مقاس العشَّاق والفقراء والمساكين والأحرار فتقول في نفس الحوار السابق: «شعري ينزع نحو الخير والجمال، فيه طابع إنساني أتجه فيه نحو الناس البسطاء المساكين والفقراء... والباحثين عن فسحة حرّية... إنني أبحث في شعري عن قارّة من الحرّية المطلقة».

وفي سؤال لها عن البيئة التي تولد فيها قصيدتها قالت الشاعرة الراحلة: «تولدُ القصيدة عندي إثر حالات توتُّر نفسيّ حادّ مرفقة بهواجس وعذابات تشبه غصّة الدمع وانحباس الضحكة اليائسة... في هذه الطقوس النفسية الفظيعة يولد عندي النص الشعري، ويعقبه تعب مسرّ ثم تخفّ عندي حالة الحزن المريرة، وأشعر بهدوء نفسي نسبيّ... يبدو أن الشعر يغسلنا من مرارة الأحزان».

بعد غيابها المفاجئ في 29 نيسان عام 1991 بأشهر، صدرت لها مجموعة شعرية بعنوان "الشجرة التي تميل إلى الأرض"، وكان واضحاً فيها أن صوت الموت هو أعلى صوت لديها، لقد كانت هي الشجرة التي تميل إلى الأرض، وقد كانت ترثي نفسها وتودّع الحياة والحب والناس بمودة آسرة وحب صاف يملأ ديوانها الحزين هذا:

"انزعوا الأقنعة أيها البشر

وامشوا حفاةً أيضاً

وعرايا...

ثمة ضوء في آخر الليل الطويل

ثمة نهارات...". (نصوص لم تنشر إلى الآن للشاعرة في كتاب)

ولدت الشاعرة الراحلة في "اللاذقية" ونشأت في بيت يهتم بالأدب والفن، تلقت تعليمها قبل الجامعي في "دمشق" أولاً، ثم في "اللاذقية"، لتعود إلى "دمشق" وتلتحق بكلية الآداب - قسم اللغة العربية- إلا أنها لم تكمل دراستها الجامعية، اهتمت بإتقان اللغتين الفرنسية والألمانية، كانت متعددة المواهب فقد كتبت قصصاً للأطفال وبعض المسرحيات ومارست النحت والعزف، من أعمالها المسرحية: "بائع الزهور المجففة، فقاعة صابون، اثنان في الأرض وواحد في السماء، سأحكي لكم قصتي".

يقول الفنان والمصور الضوئي "أنس إسماعيل" من أقرباء الشاعرة الراحلة عن ديوانها الأخير: «إلى اليوم لم أقرأ مقطعاً شعرياً فيه كل هذا الإحساس بالحزن والموت واليأس الذي يدفعك إليه أنك شاعر، فتمشي راضياً نحو موتك المشتهى .. مثل المقطع الذي تقول فيه: "أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها وأبكي من شدة الشعر"، وهو من ديوان "الشجرة التي تميل نحو الأرض"، لأن موتك، مثلك، لا يطيق الانتظار».