إضافة إلى النحت والرسم والعزف، هو حرفي ماهر، غاص في التاريخ، واستهواه بكل ملامحه، فأنشأ ورشته الخاصة لصنع الأسلحة والدروع والأزياء القديمة بنفس مواصفاتها، في محاولة منه لإحياء التاريخ الحربي القديم.

ولمعرفة المزيد عن هذه التجربة التقت مدونة وطن "eSyria"، في 16 كانون الثاني 2014، الحرفي "باني مقوص" الذي حدثنا عن بداياته بالقول: «قرأت قصة عن الرومان القدماء منذ كنت صغيراً، فاستهوتني الرسوم فيها، وبتّ أحب كل ما يتعلق بالتاريخ، وهنا بدأت مسيرة البحث عن التفاصيل المتعلقة بتلك الحقبة حتى تكونت عندي وأنا في الصف التاسع معلومات وافرة عن التاريخ عامة، وعن تاريخ الرومان خاصة».

"باني" فنان وحرفي موهوب، وأعماله مكونة من اجتماع أشياء ماديّة بسيطة وبأدوات بسيطة، مولداً أعمالاً غنية ودقيقة وصادقة نابعة من روحه، وهو ما يندر وجوده في الفن، فهو يعطي الكثير لعمله دون انتظار مقابل لهذا الجهد والتعب المضنيين

وأضاف: «تولدت لدي الرغبة في صناعة الأسلحة القديمة، فبدأت البحث في الإنترنت وراسلت الحرفيين الأجانب، فاكتسبت خبرة كبيرة، ثم جربت العمل بنفسي وتمكنت بجهد كبير من بناء ورشتي الخاصة في قرية "البهلولية"، ونجحت بعد محاولات فاشلة كثيرة في صناعة أسلحتي الخاصة، مثل: السهام، والسيوف، والخناجر، والأقواس، والرماح، إضافة إلى الدروع والخوذ».

مع فادي بعدسة مجد بلال

وتابع: «استغرق بناء ورشتي عدة سنوات، فقد بقيت قرابة السنة أخطط لها، وأخرى لأحضر المواد التي أحتاجها، ولأهيئ الجو الذي يشبه الماضي إلى حد كبير لأتمكن من تقديم أعمال من روحه وعبقه وبالطريقة القديمة، فاستخدمت حجارة من الطبيعة، ووضعت فرن الحدادة في الخارج لإشعال النار، إضافة إلى سندان وصناديق خشبية لحفظ أدواتي، وقد صنعت الكثير من الأدوات التي لا تتوافر في المحيط».

أول سلاح صنعه "باني" هو السيف، فتحدث عنه بالقول: «تستغرق صناعة السيف مدة أسبوع، حيث أقوم بإشعال الفحم الحجري وأعرضه إلى الهواء القوي لأزيد من اشتعاله بواسطة المنفاخ، وأدخل فيه قطعة من الحديد وأتركها حتى تصبح حمراء متوهجة، وتصبح طرية مثل المعجون، فأقوم بطرقها على السندان إلى أن يتشكل شكل السيف المبدئي، ثم أعمل على جلخه وسنّه ليصبح حاداً؛ فأنا أصنع أسلحة حقيقية تماماً، وصولاً إلى مرحلة تزيين السيف فأصنع المقبض وحارس اليد، ومن ثم الغمد من الخشب والجلد وأزينه بالنحاس».

درع الصفائح والرمح وترس البرج

وعن صناعة الأقواس تحدث قائلاً: «أصعب الأسلحة صنعاً هي صناعة القوس، حيث تتطلب مني النوم في البراري عدة أيام للبحث عن غصن الشجر المناسب للقوس، مثل البلوط والسنديان والسرو، ويجب أن يكون عمر الغصن بين (4 إلى 5) سنوات كحد أدنى، وبطول نصف متر تقريباً، ثم أقوم بتجفيفه في الظل والهواء وأدهنه بالزيت كي لا يتشقق ويفسد، وقد تستغرق العملية بضعة أشهر».

وأضاف: «هناك أقواس أخرى يضاف إليها العظم أو قرون الحيوانات؛ حيث يتم تذويبها وإضافتها إليه فيصبح على عدة طبقات، ثم يصار إلى صنع الوتر إما من الحرير أو من أمعاء الحيوانات، أو الكتان وهو الأرخص والأقل جودة، وأهم مميزات الوتر عدم التمدد، فجودة القوس من قوة الخشب وليس الوتر، أما السهم فيصنع من قطعة حديد ناعمة، ويكون لديه عنق يتصل مع الخشب، ويتوضع في آخره ثلاث ريشات، بين كل ريشة وأخرى ثلث طول عودة السهم كي ينطلق بشكل مستقيم، ويفضل أن تكون من ريش الوز، ويُحدث في عقبه أخدود لتسهيل توضعه على الوتر وضمان عدم انزلاقه».

درع الزرد والقوس والسهم والترس الدائري

للدروع التي يصنعها "مقوص" أنواع عديدة، أسهب عنها شارحاً: «أنا أصنع عدة أنواع من الدروع ومنها درع "الزرد"، فصناعته سهلة وغير مكلفة لكنه أثقل الدروع بسبب كثافة الحديد فيه، حيث يصنع من أسلاك ناعمة على شكل حلقات متشابكة، وكل حلقة تشبك (4) حلقات أخرى، وتكون كثافة الحلقات بحسب رتبة من يرتديها، وتتراوح كثافتها بين (8 إلى 12) حلقة منسوجة بانتظام».

وأضاف متابعاً: «أبدأ أولاً صناعة الحلقات، فأصنع الحديد الناعم على شكل نوابض وأقصها لتشكيل خرزات "الزرد"، ثم أنسج قطعة مربعة منها وأزيدها حتى تصبح على مقاس الشخص مع التجريب المستمر، ويتطلب ذلك وقتاً طويلاً يتراوح بين أسبوع إلى (10) أيام؛ بمعدل (10) ساعات عمل يومياً، ويعد من أفضل الدروع للحماية من القطع، لكنه ضعيف ضد الطعن».

وعن درع الصفائح قال: «درع الصفائح أقل وزناً من درع "الزرد" وأكثر أماناً ضد الطعن والقطع، ولكن صنعه أصعب وتكلفته أعلى، ويتطلب حرفية عالية وخبرة في التصميم والصنع، حيث يستغرق صنع صفيحة واحدة يوماً كاملاً، فأقوم بصناعة القوالب من الرمل الفضي مسبقاً بحسب الشكل المراد تطبيقه، ثم أسكب طبقة رقيقة من الحديد المصهور في هذه القوالب وأنتظرها حتى تجف، ويحتاج الدرع الواحد قرابة (10) صفائح لتغطية الجسم كاملاً».

في رصيد "باني مقوص" عدداً من الخوذ والتروس والخناجر، تحدث عنها بالقول: «أنتجت إلى الآن (4) أنواع من الخوذ، وهي: الخوذة العظيمة، وخوذة الفرسان، وخوذة الزرد، إضافة إلى "خوذة الفايكينغ"، و(3) تروس، وهي: الترس الدائري الأكثر شهرة، الذي يحوي في منتصفه قطعة معدنية مقعرة لحماية اليد من الاحتكاك بالخشب وتسمى "البوس"، وترس "البرج" الذي يكون على شكل نصف أسطوانة، وهو الأكثر حماية لأنه يغطي مساحة كبيرة من الجسم، وترس "الطائرة الورقية"؛ حيث يكون عريضاً ثم يضيق إلى أن يصبح مدبباً من الأسفل».

وعن الرمح شرح "باني" قائلاً: «لصنع الرمح أقوم بإحضار غصن سرو طويل وأخرطه على شكل عصاً خشبية تحوي في مقدمتها كتلة لتثبيت رأس الرمح عليها، وهو عبارة عن سيخ من الحديد ذي رأس مدبب جداً يسمى "بيلا"، ويثبت بواسطة "تبشيمات"، وله عنق نحيف يصنع لفائدتين: الأولى لكي ينحني بعد دخوله في الجسم أو الترس وبالتالي لا بد لحامله من رميه للتخلص من ثقل وزنه، والثانية لضمان عدم استخدامه مرة أخرى».

وعن أهمية حرفته تحدث "مقوص" قائلاً: «إن عملي هو محاولة مني لإحياء التاريخ العسكري والحربي، وأنا أعمل على إنشاء معسكر، ونصب خيم على قطعة أرض بعيدة عن الحضارة، فمنها خيام لصنع الأسلحة، وأخرى لتقديم الخمر الذي اعتاد الفايكينغ تقديمه ويسمى "الميد"، ومن ثم السماح للناس بتجربة العيش في الماضي بكل تفاصيله عبر التخييم والتدرب على القتال بالسيف، والتجرد عن الواقع».

المصور الفوتوغرافي "مجد بلال" قال في صديقه: «التفرد هو ما يميز "باني"، فهو شخص برّي بالمطلق، ويتعايش مع الطبيعة بكل تفاصيلها، وتظهر موهبته بكل ما يصنع، فالنمط الذي يصنعه يحتاج إلى دقة وصبر كبيرين، وقوة بدنية ومزاجية عالية، فهو يجمع كل الصفات الآنفة الذكر إضافة إلى المواهب المتعددة في العزف والرسم والأعمال اليدوية، والحس الفني العالي».

أما "فادي مستريح" فقال: «"باني" فنان وحرفي موهوب، وأعماله مكونة من اجتماع أشياء ماديّة بسيطة وبأدوات بسيطة، مولداً أعمالاً غنية ودقيقة وصادقة نابعة من روحه، وهو ما يندر وجوده في الفن، فهو يعطي الكثير لعمله دون انتظار مقابل لهذا الجهد والتعب المضنيين».

يذكر أن "باني مقوص" من مواليد "اللاذقية" 8 أيار 1985، وهو يمتلك عدة مواهب، منها: الرسم، والنحت، والعزف على عدد من الآلات الموسيقية النفخية منها والوترية.