بزغت شمس المسيحية في فلسطين، وتألق نورها، يشع في مختلف أنحاء المعمورة، منذ أن بدأ السيد المسيح رسالته، داعياً إلى أن الإيمان هو الطريق إلى ملكوت اللـه، مشدداً على الخلاص من الخطيئة، موصياً تلاميذه باصطياد الناس، وتلمذة جميع الأمم على الافتداء، والاقتداء، والمحبة والتسامح، والتخلص من الأنانية.
وقد قطع السيد المسيح مسيرة حافلة بالمغزى والدلالة، بما حمل من رسالة، شكلت أحد المنعطفات الرئيسية في التاريخ البشري، وبما قام من خدمة، عززتها صدقية التطابق بين القول والفعل، وبما تعرض له من التحديات، التي واجهها بإرادة المؤمن بالشهادة، دفاعاً عن الحق.
إن وجود هذا العدد من الأديار في الجولان، يعبر عن كثافة عالية نسبياً، رغم أنها لا تعبر عن الحقيقة وإذ نعتقد أن منطقة الجولان كانت تضم أديارا أخرى لم يتم التعرف على مواقعها حتى الآن، وتوضح هذه الكثافة مدى انتشار المسيحية في هذه المنطقة، فالأديار دلالة تجذر، وهي بطبيعتها ووظيفتها أقل عدداً من الكنائس
«بدأت علاقة السيد "المسيح" بالجولان في وقت مبكر، فقد كان "يوسف" صديق "زبدي"، والد الأخوين "يعقوب" و"يوحنا"، اللذين كانا في عمر "يسوع" تقريباً، ومن أبناء بيت "صيدا" الجولانية، والتقى الثلاثة "يسوع" و"يعقوب" و"يوحنا"، على طريق الحج إلى القدس، حين حج السيد "المسيح" لأول مرة، وناموا معا تحت النجوم. بحسب ما جاء في كتاب "المسيح" "لعبد الحميد جودت السحار".
ويقول الباحث "تيسير خلف" لموقع eQunaytra عن دور الجولان البالغ الأهمية في سيرة السيد "المسيح" وتبلور الفكر المسيحي وانتشاره إلى درجة تجعل من الجولان أرضاً مقدسة دينياً: «توطدت هذه العلاقة لاحقاً، مع هذين الأخوين، وثلاثة آخرين، هم أيضا من أبناء بيت "صيدا" وهم: "فيليب"، والأخوان "سمعان" و"أندراوس"، فقد لجأ "يسوع" إلى بيت "صيدا"، عابرا نهر الأردن، حين علم باعتقال "يوحنا" المعمدان وسجنه، وتعرف هناك على هؤلاء الخمسة، الذين كان صيد السمك مهنتهم، ودعاهم إلى اتباعه، فلبوا دعوته حالاً، وأصبحوا من تلاميذه الاثني عشر، حتى إن الثلاثي "سمعان" و"يعقوب" و"يوحنا"، صاروا من أقرب المقربين إليه».
ويضيف "خلف": «نالت منطقة الجولان شرف زيارة "يسوع المسيح"، للعديد من مواقعها، فبالإضافة إلى بيت "صيدا"، التي كان يتردد عليها باستمرار، زار "الكرسي" و"بانياس الجولان"، التي كانت تعرف باسم "قيصرية فيليبي"، وصعد إلى جبل "حرمون" وعبر الجولان، في طريقه من "صور" و"صيدا"، إلى منطقة المدن العشرة، أو ما يعرف (بالديكابولس)، التي كان جنوب الجولان جزءاً منها، وتجول في بعض مدنها وعاد من هناك إلى الجليل عبر "فيق" و"سوسيا"، في جنوبي الجولان».
ويتابع: «شهدت مسيرة "يسوع" في الجولان أحداثا، شكلت محطات رئيسية على دروب رسالته، ففي "حرمون" تجلى أمام تلاميذه "سمعان" و"يعقوب" و"يوحنا"، وأوصاهم ألا يخبروا أحداً، إلا بعد قيامته [مت17/ 1-13] في حكمة حدوث الكثير من معالم دروب الخلاص.
وفي "بانياس" الجولان، اعترف "سمعان" أن "يسوع" هو "المسيح"، وهناك أطلق "يسوع" على "سمعان" لقب "بطرس"، وقال له: «"أنت صخر، وعلى هذه الصخرة ابن كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات». [مت 16 / 13 – 20].
قام يسوع في الجولان بسلسلة من المعجزات، التي ميّزت سيرته ورسالته وعن ذلك يتحدث الأب "الياس البابا" كاهن رعية قرية "حينة" و"عرنة" ومدينة "القنيطرة" للروم الأرثوذكس: «بهرت العقول، وهزت القلوب، وأثارت اليقين على الشك، ودفعت بهم إلى الإيمان، لمساً، وبصراً، فبصيرة، منها معجزات خاصة بالطبيعة، كتهدئة العاصفة العاتية في بحيرة طبريا، والمشي على سطح مياه هذه البحيرة.ومنها معجزات تتعلق ببعض الحالات المرضية، منها معالجة وشفاء حماة بطرس، والرجل الأعمى، ونازفة الدم البانياسية، وعن التجلي بشكل خاص إن الرب "يسوع" قبل تجليه على جبل "حرمون" وهو "جبل الشيخ" حاليا كان مجتمعا بتلاميذه في "قيصرية فيلبي" وأخذ يحدثهم ويقول لهم من يقول الناس إني أنا فيجيبونه أنك "المسيح ابن الله الحي"، وخلال تلك الفترة صرح "يسوع" لتلاميذه ما سيحصل له من أحداث وبعد ستة أيام أخذ "بطرس" و"يعقوب وآخاه "يوحنا" وانفرد بهم إلى جبل "عال" وهو جبل "حرمون" (وقد ورد في العهد القديم (طبور وحرمون) لاسمك يتهللان وقد انفرد عنهم وتجلى أمامهم فأشرق وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور وظهر لهم "موسى" و"ايليا"، يكلما فهو بينما هم يشاهدوا ما يحصل من أحداث إذا بسحابة كبيرة مضيئة وقال صوت من السحابة هذا هو ابني الحبيب الذي رضيت فله اسمعوا هذه إحدى الأحداث التي تمت على جبل "حرمون") ونحن كل سنة في السادس من آب نصلي بنفس المكان الذي تجلى عليه السيد "يسوع" أي على قمة "جبل الشيخ".
هناك أيضا معجزة تكثير الخبز والسمك فقد كان في الجولان، أيضا حيث بحيرة "طبريا" وقد كان الجموع معه وكان المكان قفر بجانب البحيرة وقد أصبح المساء ولا يوجد إلا خمسة أرغفة وسمكتين فأمر الجموع بالجلوس على العشب فبارك الأرغفة الخمس والسمكتين وأعطى الجموع فآكلو كلهم وزاد 12قفة مملوءة وكان عدد الجموع حوالي خمسة آلاف رجل ما عدا النساء والأطفال، كذلك حادثة المشي على المياه في بحيرة "طبريا"، إذ يقول إنجيل "متى": «ولكن يسوع دعا تلاميذه إليه، وقال: إني أشفق على الجمع، لأنهم مازالوا معي منذ ثلاثة أيام وليس عندهم ما يأكلون، ولا أريد أن أصرفهم صائمين، لئلا تخور قواهم في الطريق".[مت 5/32]»
ويتابع ليقول أجيل "متى": «"ثم صرف يسوع الجموع، وركب القارب، وجاء إلى نواحي "مجدان" [مت 15/39].
ويقول أنجيل "مرقص": "في تلك الأيام، إذ احتشد أيضا جمع كبير، ولم يكن عندهم ما يأكلون، دعا يسوع تلاميذه إليه، وقال لهم: إني أشفق على الجمع، لأنهم مازالوا معي، منذ ثلاثة أيام، وليس عندهم ما يأكلون، وإن صرفتهم إلى بيوتهم صائمين، تخور قواهم في الطريق، لأن بعضاً منهم جاؤوا من أماكن بعيدة". [مرقص 8 / 1- 3 ]
ويتابع ليقول: "وفي الحال ركب القارب مع تلاميذه، وجاء إلى نواحي دلمانوثة". [مرقص 8/10] ("مجدان" و"دلمانوثة" هما "المجدل")».
ويرى الباحث "تيسير" مما تقدم أنه يوضح جملة مؤشرات تفيد في تحديد الموقع وهي: «كان الجمع مع يسوع منذ ثلاثة أيام، جاء بعضهم من أماكن بعيدة، أطعم يسوع هؤلاء، حتى لا تخور قواهم، في طريق عودتهم إلى ديارهم، ركب يسوع قاربه حالا بعد الطعام، وأبحر في بحيرة "طبريا".
ويؤكد كل هذا أن الجمع كان حاشدا، رافق يسوع في طريق عودته، من جولته في مدن (الديكابولس)، وتوقف الجمع في موقع يودع فيه يسوع هذا الجمع، وأن يسوع ركب قاربه حالاً، بعد أن رأى في الوجوه علامات الشبع. ويرجح كل هذا أن يكون الموقع قرب بحيرة "طبريا"، وعلى شاطئها الشرقي تحديداً، ونميل إلى أن يكون الموقع هو "الكرسي"، أو موقع في منطقة "سوسيا" أو "هيبوس" باللغة اليونانية».
انتشرت المسيحية في الجولان تدريجياً، فقد بقيت الوثنية تقاوم بضراوة، ولم تتمكن المسيحية من اجتثاث جذورها، حتى جاء الإمبراطور الروماني قسطنطين الكبير، وأطلق الحرية للدين المسيحي، وشجعه، ووفر فرص انتشاره في عام (313 ميلادي) وعن ذلك يقول الباحث "عزالدين سطاس": «تحولت منطقة الجولان برمتها من الوثنية إلى المسيحية، وساهم ملوك وأمراء الغساسنة النصارى بهذا الانتشار وفتحوا الآفاق أمام الدين الجديد للتوسع والازدهار، وقد ارتفعت الكنائس والأديرة العامرة، في مختلف أرجاء الجولان، وتشير أسماء بعض المواقع في هذه المنطقة، إلى جذورها المسيحية، فهناك عدة مواقع تبدأ أسماؤها بكلمة دير أو دوير (تصغير الدير)، مثل مواقع: "دير عزيز"و"دير قروح" و"دير مفضل" و"دير سراس" و"دير الراهب" و"دوير بان" و"تل الدوير" و"دوير اللوز" و"دير فيق"، الذي كان آهلا بالرهبان، في أيام "ياقوت الحموي" (1179 – 1229م ) أي في العصر الأيوبي، وقد اعتبره بعضهم أقدم الأديار، ويعتقد أن هذا الدير، أقيم في موقع مر فيه يسوع المسيح، على طريق عودته من منطقة (الديكابولس)، وقد كشفت عمليات التنقيب عن مواقع أخرى، كانت تضم أديارا، كدير الكرسي».
ويرى الباحث "سطاس" «إن وجود هذا العدد من الأديار في الجولان، يعبر عن كثافة عالية نسبياً، رغم أنها لا تعبر عن الحقيقة وإذ نعتقد أن منطقة الجولان كانت تضم أديارا أخرى لم يتم التعرف على مواقعها حتى الآن، وتوضح هذه الكثافة مدى انتشار المسيحية في هذه المنطقة، فالأديار دلالة تجذر، وهي بطبيعتها ووظيفتها أقل عدداً من الكنائس».
وأفادت الدراسات أن العديد من المواقع القديمة في الجولان، كانت تضم كنائس رائعة، منها على سبيل المثال لا الحصر: ("الكرسي" و"رعبنة" و"الحمة" و"خسفين" و"سوسيا" و"الجويزة" و"الرفيد" و"الصرمان" أي قرية "العدنانية" و"نعران" و"الرمثانية" و"بانياس") التي احتلت صدارة هذه المواقع وبأبرشيتها وقديسيها».
ويشير "سطاس" إلى أنه جاء في الموروث المسيحي أن "بولس" الرسول أحس بالتعب والإرهاق خلال رحلاته التبشيرية، وبدأت صحته تضعف، فقرر زيارة "الحمة"، رغم أنها مكاناً للمتعة الوثنية، ونزل في بركة الفقراء، لأنه لم يكن يملك قيمة رسم الدخول إلى البرك الأخرى، وأحس بالتحسن حالاً، فرغب في أن يؤدي صلاة الشكر، غير أنه لم يستطع حيث فقد القدرة على الكلام، حتى انبثق نبع بارد من المياه العذبة داخل البركة الساخنة، فشرب منها وعادت قواه، وقد حمل هذا النبع اسمه منذ ذلك الوقت، وهو نبع صغير يقع في الشمال الغربي من الموقع، وتبلغ حرارة مياهه نحو 25 درجة مئوية، وتوحدت مياهه لاحقاً مع مياه النبع الحار، المعروف باسم "عين البلسم"».
ملاحظة: الصورة الرئيسية هي لوحة تجسد "المسيح" والحواريين يصيدون في بيت "صيدا"، رسمت هذه اللوحة في القرن السادس عشر. وجميع صور المادة من أرشيف الباحث.