إنها قصة العشق الأول في حياة البدوي، بطول حياته التي عاشها في الصحراء، وليس هناك من مظهر يدل على الرجولة وشدة البأس عند البدوي، كما هو الحال بوجود النار التي لا تنطفئ أمام بيته، ووقع مهباش القهوة، ورائحة الهيل التي تخز الأنوف، فتمتلئ النفوس نشوة، لتطيب الأحاديث، فيتزين الليل بحكايا الرجولة الممتزجة بالخرافات والأساطير.

وتدور الدنيا بأهلها، وتتغير العلاقات الاجتماعية بتغير نظام حياة الناس، وتبقى القهوة العربية برغم كل ذلك طقساً يختزن قيماً كثيرة من الشجاعة، والكرم، والألفة، والمحبة، فما أن تدخل منزل أحدهم، حتى تتهادى إليك بعد هنيهةٍ "دلّة" القهوة، تسبقها إليك رائحة "الهال"، فتنتشي نفسك، وقد تكون لستَ بعالمٍ كيف وأين ومتى، بل وماذا تعني هذه الرشفة من قعر الفنجان الذي كان في يوم من الأيام التي قد خلت، يكلف شاربه كل حياته.

يامحلا الفنجال مع هناة البال في مجلسٍ ما فيه نفسٍ ثقيله هذا ولد عمٍّ وهذا ولد خـال وهذا رفيقٍ ما ندور بديـله

ولأنها حديث يطول سرده، والتلذذ بالإصغاء إليه، فإن موقع eRaqqa وبتاريخ (10/10/2008)، التقى مجموعةً من المهتمين بهذا الباب، وبدايةً سألنا الأستاذ "ابراهيم العكاوي" مدرس اللغة العربية، في إحدى ثانويات "الرقة" عما تعنيه هذه المفردة فأجاب: «كلمة قهوة، موجودة في اللسان العربي كاسم من أسماء الخمر، إذ يقول العالم اللغوي "الفيروز أبادي" في معجم مختار الصحاح، أنَّ القهوة هي الخمر، وسميت بذلك لأنها تقهي أي تذهب بشهوة الطعام».

طريقة صنع القهوة العربية قديماً

بينما يحدثنا السيد "خالد حمولة المطر"، عن كيفية صنع القهوة العربية بقوله: «منذ أن كنت صغيراً تعلمت على يد والدي "حمولة المطر"، طبخ القهوة العربية، كون بيتنا من البيوت التي تغص بالضيوف في محافظة "الرقة"، فلكثرة مراقبتي لوالدي الذي كان يبادر بإكرام ضيوفه، حيث يقوم بتحضيرها بنفسه أمامهم، فبعد أن تكون النار مشتعلةً، يضع "المحماسة" عليها ويضع فيها حبات البن، ويقوم بتحريكها باستمرار حتى لا تحترق، إلى أن يتغير لونها، شقراء أو سمراء حسب ما يريد ويشتهي، ويضعها بعد ذلك في "المبرادة" كي تبرد، وما أن تبرد حتى يضعها في "النجر" ويطحنها جيداً، ويكون الماء في هذه الحالة موضوعاً على النار إلى أن يصل إلى درجة الغليان، فيضيف له مسحوق القهوة الذي طحنه ويتركها لتغلي قليلاً، في أثناء ذلك يقوم بطحن حبّ الهال في "النجر" ذاته، ويضع مسحوق حبّ الهال في "المبهارة"، ويصب القهوة التي تكون قد غلت فوق الهال المطحون، ويرجعها إلى النار قليلاً، وبذلك تصبح جاهزةً تماماً، وكان يحرص بشدةٍ على عدم إضافة أي منكهات غير الهال، حتى يتذوق الناس قهوته ويدركون جودتها».

أما عن الأدوات التي كانت القهوة العربية تصنع بها فيتابع "الحمولة" قائلاً: «في عصرنا الحالي تغيرت الأدوات التي تصنع فيها القهوة العربية، ومن تذوق القهوة العربية أيام زمان يدرك ما هو الفرق بطعم القهوة العربية عندما تغيرت الأدوات التي تجهز بها، حيث كانت الأدوات القديمة التي ما زلنا نحتفظ بمعظمها هي "المحماسة"، التي نحمص بها حبوب القهوة على النار، و"المبرادة" التي تستعمل لتبريد القهوة، و"المهباش" أو "النجر"، لطحن القهوة، و"دلّة الطبخ" لطبخ القهوة على النار، و"المبهارة" وهي عبارة عن دلّة صغيرة تبهَّر بها القهوة، و"المنفاخ" الذي يستعمل لزيادة إشعال النار، و"الليف" الذي يكون على فم مصب القهوة ليمنع حبات الهال التي لم تدق جيداً أن تنزل في فنجان الضيف، و"اللطوة"، التي هي أداة من قماش تستخدم لإمساك الأواني الساخنة، و"المنصب"، وهو أداة من الحديد بثلاثة أرجل، ويستعاض عنها إن لم توجد بالحجارة».

ضيافة القهوة باليد اليمنى

وعن طريقة سكب القهوة التقى موقعنا السيد "عيدو شيحان"، الذي يعمل بسكب القهوة العربية في المجالس الكبيرة، كالعزاء والأفراح، بقوله: «تقدم القهوة للضيف بعد السلام عليه، حيث نقوم بانتظاره ريثما يحجز مكاناً له في المجلس، نصب الفنجان ونشربه أمام الضيف، ثم نسكب الثاني ونمسكه باليد اليمنى، ونقدمه للضيف الذي يجب أن يتناوله باليمنى أيضاً، ويحتم على الضيف عندما يرى مضيفه يتجه إليه بالقهوة بقصد الضيافة، أن يصحح من جلسته، فلا يجوز أن تسكب فنجاناً من القهوة لمن استرخى في جلسته، ونأخذ بعين الاعتبار أن الضيف ربما يكون شارد الذهن، فنجعل فم الفنجان يرتطم بمصب القهوة، فيصدر عن ذلك صوت مميز لتنبيه الضيف، وعند اكتفائه من شربها يهز فنجانه إشارة إلى اكتفائه فنتوقف عن سكب القهوة له، وقديماً كان من المعيب أن يقوم أحد الضيوف من المجلس بينما تدار القهوة للضيوف، ولكن الكثير من الأمور قد تغير الآن».

أما الدكتور "علي الحسن" الاختصاصي في الأمراض الداخلية فحدثنا عن فوائد القهوة بقوله: «لم يضف العرب "الهال" إلى القهوة عبثاً، فلقد ثبت علمياً أنه بالإضافة للنكهة التي يمنحها للقهوة، فإنه يخفف من مفعول مادة "الكافيين" على الجسم، وهذه ميزة من ميزات الزيوت الطيارة ذات الرائحة العبقة في بذور حب الهال، وللتحكم في نسبة "الكافيين" ثبت علمياً أيضاً أن طريقة تحميص حبات القهوة له دور في ذلك، فالقهوة التي تم تحميصها كثيراً وأصبحت بنيةً غامقة، تكون نسبة "الكافيين" فيها أقل من تلك الشقراء، والأبحاث حول حب "الهال" بدأت ولم تتوقف منذ عام /1950/، ولم تصدر نتيجة لأي دراسة تتحدث عن الآثار السلبية لحبّ الهال، وتتكون حبة الهال من /20%/ ماءً، و/10%/ بروتينات، و/2%/ دهون، و/42% من السكريات، و/20%/ من الألياف، والنسبة الباقية عبارة عما يسمى بالرماد».

الأستاذ "خلف العلي"

ولدى سؤال الدكتور "الحسن" عمَّا إذا كان حب الهال قد استخدم سابقاً بقصد العلاج فأجاب: «دلّت أغلب مدونات الطب اليوناني القديم، والكثير من نصائح الطب الشعبي لدينا، على أن حب الهال يوصف كفاتح للشهية، وطارد لغازات الأمعاء، ومخفف لحرقة المعدة، كما أن احتواء القهوة العربية على الكربون يساعد على الهضم وتنشيط الجسم، وحبّ الهال مفيد في تنظيف الفم من الجراثيم التي تسبب التهاباته، ويمنع الروائح غير المحببة فيه، ويخفف أعراض الجهاز البولي واضطرابات البروستات، وثبت علمياً أن الهال الممزوج مع القهوة يساعد كثيراً برفع حالة الاكتئاب، وتنصح به رابطة الحمل الأمريكية أثناء الحمل لاكتساب الرائحة الزكية للنفس دون التأثير على الجنين، وأحدث دراسة حول القهوة أفادت بانخفاض في نسبة المصابين بالنوع الثاني من السكري بين الذين يتناولونها».

ويحدثنا المهندس الزراعي "عبد القادر العواد" عن شجرة البن فيقول: «إنها شجرة دائمة الخضرة، يبلغ ارتفاعها حوالي /6/ أمتار، وأزهارها بيضاء، أما الثمار فهي حمراء، ويتم تلقيحها ذاتياً، ونموها بين /6/ إلى /8/ أعوام، يتم حصاد ثمارها بهزِّ الشجرة، أو بآلات حديثة، حيث تنقع حبوبها بالماء لتخفيف مرارتها، وأجودها نوع يدعى "الخولاني"، نسبةً إلى منطقة في "اليمن" تدعى "خولان"، وهذه الشجرة تنمو طبيعياً في المناخ الحار الرطب في فترة نموها وبذلك يكون المناخ الاستوائي هو المناسب لزراعتها، حيث يتطلب قطافها مناخاً جافاً، ومن المؤكد أنها تنمو برية في الحبشة واليمن، واليمنيون كانوا أول من حمَّص بذورها وسحقها لغليها بقصد الشراب، وبذلك يسجل لهم أول استعمال غير طبي للقهوة، وتروي الأسطورة أن راعياً حبشياً أو يمنياً في روايةً أخرى، لاحظ بأن أغنامه تبقى دائمة النشاط والحركة في الليل، عندما يأخذها للرعي في مكان معين حيث تأكل نبتةً بذاتها، فجربها وكان ذلك الاكتشاف الأول لثمار شجرة البن».

أما الأستاذ "خلف العلي" الباحث في التراث الشعبي، فقد استفاض بالحديث عن طقوس القهوة العربية وأنواع فناجينها بالقول: «أول ما يخشاه البدوي أن تكون القهوة التي يقدمها لضيفه، قد لحقها عيب معين، كالطعم الغريب، أو سقوط جسم أجنبي فيها، وهذا النوع من القهوة يدعوه العرب بالقهوة "الصايدة"، أي القهوة التي لحقها عيب في طعمها، ومن حملت قهوته هذه الصفة كان يشعر بالمهانة الشديدة ويسارع لتبديلها، وكان للعرب طقوس خاصة في تحضير وتقديم وشرب القهوة، وبكونها تحولت لرمز من رموز الرجولة والكرم، فلقد قسم العرب دلالات ضيافتها بالفنجان، وقسموا فناجينها إلى مسميات ترمي كل واحدة منها إلى حالة نفسية معينة، وتنعكس هذه الحالة على تقييم الفرد، وربما القبيلة بكاملها».

ويتابع "العلي" حديثه بالقول: «وترتبط النار بالقهوة ارتباطاً شديداً، ولها عند العرب معانٍ سامية، فهم يوقدونها ليلاً بقصد التدفئة، والطبخ، وصنع القهوة، والأهم من كل ذلك اهتداء الضيف إلى مضاربهم، وكانت العرب إذا ما هجت أحداً آخر من العرب، تنعته بصفة فيها إطفاء لجذوة تلك النار، كأن تقول له (ناره رماد)، وجعلوا فوق كل ذلك أسماء للفناجين التي يسكبون القهوة فيها لضيوفهم، فالفنجان الأول يدعى "الهيف"، حيث يحتسيه صاحب البيت، قبل أن يسكب القهوة لضيوفه، وقد درجت هذه العادة عند البدو قديماً ليأمن ضيفهم من أن تكون القهوة المقدمة له مسمومةً، لشدة النزاع بين القبائل آنذاك، واستمرت هذه العادة حتى الآن بتغير دلالاتها، فصاحب البيت يشرب هذا الفنجان أمام ضيفه لاختبار جودة قهوته، أما الفنجان الثاني فتدعوه العرب "الضيف" الذي يعتبر الفنجان الأول الذي يشربه الضيف، وهو واجب الضيافة العربية الحقَّة، وفي طقوس البادية قديماً كان الضيف مجبراً على احتساء هذا الفنجان، إلا في حالات خاصة كالعداوة الشديدة بينه وبين المضيف، أو رغبته بأن يلبي مضيفه طلبه الذي جاء من أجله، وكان من عرف العرب وقتذاك، تلبية هذا الطلب، وإن لم يلبَ هذا الطلب ولم يشرب الضيف فنجانه لحق العار بصاحب البيت، والفنجان الثالث تدعوه العرب "الكيف"، لتعديل المزاج فحسب إن رغب الضيف به وهو ليس مجبراً على شربه، ولا يلحق عدم شربه أي ضرر بالمضيف، ويصنف بأنه أقل الفناجين قوةً بعادات أهل البادية، بينما يصنف الفنجان الرابع المدعو بـ "السيف" بأنه أقوى الفناجين عند العرب، فمن يحتسيه فقد رهن عمره وحياته مع مضيفه، وصار مجبراً على التكافل غير المشروط معه بالسراء والضراء، فعدو مضيفه هو عدوه حتى لو كان هذا العدو من لحمه ودمه، وهو بلغة عصرنا ما يسمى التحالف العسكري ما بين الضيف والمضيف، وكانت العرب تتحاشى هذا الفنجان ما أمكنها ذلك، ولكن شرب أكثر من ثلاث فناجين من القهوة بين أبناء العمومة فذلك لا ضير به، لأنهم في النهاية متضامنون متكافلون بكل شيء».

وعن الفنجان الأخير يقول "العلي": «والفنجان الأخير بتصنيفات العرب هو فنجان "الفارس"، حيث يصب صاحب البيت فنجاناً أمام شباب القبيلة وفرسانها، ويرفعه عالياً ويقول: هذا فنجان فلان ابن فلان... من يشربه؟، وهو بذلك يبحث عمَّن يأتي له بحقه من هذا الذي سماه، وقد يكون هذا الحق ثأراً، فإذا ما دبت النخوة برأس أحدهم وقال: أنا له، وشرب الفنجان، فإنه يذهب بطلب هذا الشخص ولا يعود إلا بعد جلبه البرهان الأكيد على أنه انتقم لصاحب الفنجان، وإن لم يفعلها وعاد للقبيلة، فإنه يعود محملاً بالخزي والعار، ولا يحق له الزواج من هذه القبيلة، ولا يخرج مع فرسانها لقتال أبداً، أو أنه يختصر كل ذلك ويرحل عن القبيلة ولا يعود لها أبداً».

ويذكر أن القهوة لم تكن معروفةً عند العرب في الجاهلية، ولا في صدر الإسلام، وكذلك في العصر الأموي، وهي لم تدخل الجزيرة العربية، حسبما يرى الباحث "خلف العلي"، إلا في القرن السابع الهجري، الموافق للقرن الثالث عشر الميلادي، حيث عرفها أهل اليمن، ثم "الحجاز"، و بلاد الشام، فـ"اسطنبول"، عندما افتتح مواطنان سوريان أول مقهى أسمياه "كهفي خانة"، ومن هناك انتشرت القهوة العربية إلى كل أنحاء العالم، أما في مدينة "الرقة" فكان لها الاهتمام الكبير من قبل كل عشائر المحافظة، كموروث لابد من المحافظة عليه، وكانت بيوتات "الرقة" تخصص في كل منها غرفةً خاصة للضيافة تدعى "الأوضة"، تقدم فيها القهوة العربية بأصولها التي تحدثنا عنها، وكان يقدم معها سابقاً حبة تمر، فالعرب تقول (بهار القهوة.. التمر)، ورحم الله الشاعر الذي قال:

«يامحلا الفنجال مع هناة البال في مجلسٍ ما فيه نفسٍ ثقيله

هذا ولد عمٍّ وهذا ولد خـال وهذا رفيقٍ ما ندور بديـله».