إلى جانب الغضب والحزن والثورة، ظهرت الشكوى كإحدى ركائز الشعر الوجداني الذي عرفه العرب، والذي اشتهر به الرثاؤون في الجاهلية، والعذريون، و"أبو فراس الحمداني"، و"الشريف الرضي"، و"ابن عباد" في العصور اللاحقة. وفي العرف يكون الطرف المتضرر هو الشاكي دوماً. وإن شاءت الظروف وانحرفت هذه القاعدة العرفية فإن العامة تقول: «ضربني وبكى وسبقني واشتكى».

ويلجأ إلى هذه السبيل من يمتلك القدرة على الحيلة، ويجيد فنها خشية منه للعقوبة أو اللائمة، أما عن العاشقين فكل منهما يناله من الضرر ما يكفيه، وكل منهما يشكو. ومن حيث أن الشعر الفراتي يحمل بين دفتيه ملامس الشعر الوجداني، فإننا نجده يفيض بالشكوى من الحبيب تارة، ومن النمام تارة أخرى، ومن العاذل على الغالب. وقد برزت هذه الظاهرة في لون "الموليَّا"، اللون الأكثر شهرة، وقد جاءت صريحة استخدم خلالها الشاعر كلمات الشكوى، (شكيت –اشكي لكم - يتشكا).

فنجده يشكو الهموم التي صدأ قلبه منها، وقد أثقلت كاهله، وأمست عيونه تذرف الدم بدلاً من الدموع.

حسين الحسن أشهر من غنى في الرقة

شكيت لك ياولد تجلي صدايا وهم/ وشحال عين الفراق اللي بكاها دم؟

اشكثر شايل جفا ولوعات يابن آدم/ تجبر اللي كتب باطراف طلحيّــة

الربابة عنوان الشكوى والحزن

ثم تمسي وتصبح الشكوى مساورة بين الشاعر، وفكرة من ذلك الحبيب الذي رسا حبه بقلبه. ذلك الحب الذي يشبه بوقعه الحب العذري:

أمسيت وأصبحت أنا عقلي يتشكا لي/ يامن هواهم كما العـــذري بدلاّلي

إبراهيم الأخرس وشكوى وشجون على الربابة

منك طعيـن برمح يابو برج عالـي/ دخيل نجمي سقط بالله انهضوا شوية

ثم لا يلبث أن يشعر بالغربة في ذلك الوله، الذي سحق قلبه، كما يسحق البن، ذلك القلب الذي احتوى منازلاً للحزن، واحترقت تلك المنازل فأخذ خدمها يلقون بالحطب عليها الذي تلتهمه النار، فتزداد لهيباً، وقد تعمدوا ذلك ليغيضوا الشاعر:

بالضيم مالي ونس تشكي لكم ولهان/ دقم عظامي بهون البن غثا ولهان

علجن بيوت الحزن وسط القلب ولهن/ خدَّام تزيد اللهب كلو جكر بيَّـه

وعندما يكون الهم ثقيلاً يفوق قدرة الشاعر على التحمل، فإن شكواه تكون للخالق:

يهلن دموعي بقيت أندب على حالي/ سريت وأصبحت أنا بسعون وجبال

شكيت أمر ٍجرى لمدبر الحـــال/ يشيب راسي على فراق الرداحيَّـه

ولا عجب إذا ما كانت شكواه كشكوى المحراث (للمشفن) ودموعه على وجنتيه تجري:

شكيت لك ما شـكا الفدان للمشـفن/ يدموع عيني على الوجنات ما نشفن

إن كاد حظك كدى يا خوي حظي فان/ ضيعت ولف الجهل وشعاد بيديَّــه

وهو يشكو ألم الوجد الذي انتابه منذ حداثة سنة:

شكيت لك يا ولد شكوى الخفا عني/ امولع بحبهن مني بزغر سني

بذني سمعت الخبر ردة غلـط عني/ وتقول لا والنبي مابدل النيَّـه

كما أن شكواه كشكوى المحراث للغولي، ودموعه غزيرة تذرف على وجنتيه:

شكيت لك ما شكا الفدان للغولــي/ يدمع عيني على الوجنات شاخولي

لا تزعلن يا لسّمر انتن ورد جوري/ والبيض لي شر عبن غزلان بريَّة

وبذلك تزهر "الموليَّا" بصدق الشكوى التي حملتها، وتقترب أكثر من قلوبنا الأقرب إلى الأسى من السعادة لتبدو ينبوعاً من الزلال، وقد احتوى صدفاً استمال أنظارنا، وجذب قلوبنا، وشغل فكرنا، وامتلك أرواحنا اللاتي أسرن يوماً ما في دوحة الشعر.

المراجع:

  • "شعراء الموليّا في القرن العشرين": "محمد الموسى الحومد "- دار "الغدير"، "السلمية"، /2000/.