من دون مبالغة، وبمنتهى الحيادية والموضوعية، هو من هؤلاء الذين يُطلق عليهم "مثقف حقيقي"، فهم يجمعون بسلوكهم بين الحالة النظرية، والتطبيق العملي لها، فيرتقون بتصرفاتهم إلى مستوى الحراك الثقافي والاجتماعي الحقيقي.

"محمد جاسم الحميدي" ليس مجرد اسم عادي، فهو عميد الصحفيين في "الرقة" وفيها ولد عام /1954/م، حصل على إجازة في اللغة العربية من جامعة "حلب" عام /1977/م، ودبلوم الدراسات العليا من جامعة "دمشق" عام /1979/م، وعضو اتحاد الكتاب العرب، جمعية الدراسات والبحوث، وعضو اتحاد الصحفيين، ورئيس مكتبي جريدتي "الثورة" و"الفرات" في "الرقة"، والروائي في روايته "شمس الدين".‏

قال الشيخ: الأحلام كلها منافع فلولاها ما تحملت وحشة البراري، إنها هي التي تلون وقتك، وتؤنس وحدتك.. من يعيش دون أحلام..؟! ## حتى وإن لم تتحقق..؟ أليست الأحلام هي ما لا يتحقق؟.. ما يتحقق لا يبقى حلماً..! ها هو ذا الشيخ يقوده مرة أخرى إلى منطقة

رواية "شمس الدين" في تلخيص لها، هي مجموعة من الحكايات المؤسطرة من الموروث الجمعي الرقي، منتقاة بمنتهى الدقة، وكل حكاية فيها ترمز إلى حالة معينة، فهو استفاد من الحكائية بنقلها إلى تقنيات السرد الروائي، وأضاف إليها معالجته السردية الموضوعية والسليمة، وبث فيها الموضوعات المحببة نقدياً في الرواية والمؤدية لرسالتها الأدبية المنوطة بها، فتجد الإمتاع والمؤانسة، وفي الوقت نفسه الإفادة والاستفادة، وهنا مؤدى الرواية "التفاعلية التشاركية"، حسب تنظير "باختين".

الأديب محمد جاسم الحميدي

«ذات أصيل شتائي بارد، في غير موعده، دخل الشيخ "إبراهيم" إلى "شمس الدين"، كنهر غادر مجراه، كنجم في عز الظهيرة، كأفعى نضت ثوبها الثلجي مع أن الشتاء مازال عجوزاً تركض الرياح بعباءته السوداء الباردة كالجليد، وقبل أن يرتد طرف شمس الدين اليها كان الشيخ قد نشج لها من ماء الظلمات، وبقايا الطينة الأولى، وغبار معارك لم تشهدها، وحيوات لم تخبرها، وصراعات لم تبتدعها تاريخاً اليوم فيه كألف سنة مما يعدون».

واللغة في هذه الرواية لغة عبقرية نوعية، فالعبقرية تأتي من كونها لغة بيئية، تتناسب مع البيئة التي تطرقها الرواية في فضائها الزمكاني، فالسرد بالفصحى القوية والحركية، التي تأخذك بعيداً، لكنها تبقيك في مناخ الرواية وبيئتها، ومن الأدلة على ذلك هذا المقطع: «فإن اجتمع اثنان فلن يكتفيا بالترافس الذي يصيبهما وحدهما، بل يشعلان وطيس حرب شعواء وقودها النساء العواقر، والرجال العقم، والأطفال الطائحون، والمصابون بالعين، والمضروبون بالسر، والرجال المخاوون، والنساء الممسوسات، والضرائر اللواتي يتنازعن عن ذكر رجل، والعشاق الذين يتقاتلون على قلب امرأة، والكسحان والكتعان والعرجان والعميان والعوران والبرصان والكجلان والجذمان والجربان..».‏

ولم يتناس "الحميدي" أن يضفي نفحة من الفلسفية على روح النص الروائي، تلك النفحة التي تقود سفينة السرد في وجهتها السليمة. «قال الشيخ: الأحلام كلها منافع فلولاها ما تحملت وحشة البراري، إنها هي التي تلون وقتك، وتؤنس وحدتك.. من يعيش دون أحلام..؟!

حتى وإن لم تتحقق..؟

أليست الأحلام هي ما لا يتحقق؟.. ما يتحقق لا يبقى حلماً..!

ها هو ذا الشيخ يقوده مرة أخرى إلى منطقة».

وتقنيات ما تحت الأدبي التي ترى الدكتورة "شهلا العجيلي" ضرورة وجودها في النص الروائي هي حاضرة بقوة، وقد أعطت النص التماسك البيئي المطلوب، فالنص الروائي يعكس بيئة الكاتب، فالأمثال والأٌغاني والأشعار والأهازيج الشعبية، نجدها بكثرة في هذا النص، لكن تلك الكثرة العقلانية وليست الافراطية، إنما تأتي في المكان المناسب، وتنم عن تمكن الكاتب من البيئة التي يكتب عنها.‏

وتذكرت أٌغنيتها التي كانت ترددها:‏

لأرقى على الله العالي/ وأعاتبه وأقله/ وشلون فراق الغالي.‏

والسؤال القوي الذي يطرح نفسه علينا لماذا هي رواية عربية بحتة؟‏ وحتى لا يكون كلامي هنا عبثياً وعشوائياً، وبعيداً عن المنهجية، سأنطلق من المنهج النقدي الحداثي العربي، والذي يقول المنظرون له إننا وصلنا إلى سن الرشد في الرواية العربية، والاتكاء على الرواية الأوروبية، والأمريكية اللاتينية، من ناحية تقنيات السرد والعناصر الفنية للرواية يجب أن يكون بحدود ضيقة والرواية الجيدة عربياً، هي تلك الرواية التي تستفيد وتطور تقنيات السرد، والعناصر الفنية العربية، وهذا الكلام ينطبق على رواية "محمد جاسم الحميدي"، فهو استفاد من تقنية عربية بحتة في السرد والعناصر الفنية للرواية، وهو كتاب "ألف ليلة وليلة"، فرواية "الحميدي" هي مجموعة حكايات وظف فيها تقنيات الرواية للارتقاء بها، فحاكى "ألف ليلة وليلة"، وعمل على تطوير تقنيات السرد والعناصر الفنية.

والتطوير عند "الحميدي"، يكمن في أن الحكائية في "ألف ليلة وليلة" كانت حلزونية، أما عنده فهي توالدية حيث تلد الحكاية من رحم حكاية أخرى، والبطل هو المكان، "شمس الدين"، في رصد اجتماعي نفساني ضمن معالجة سردية تعكس التمكن والمخزون الثقافي عند "الحميدي" .

وفي النهاية سأحاكي أسلوب الصحفية "ديانا جبور" مديرة التلفزيون السوري، عندما كانت رئيسة للقسم الثقافي في جريدة "الثورة"، فكتبت في زاويتها آنذاك بما فيه معناه: حيادية العنوان، وعدم دلالة الغلاف على البيئة مسؤولان عن قلة الاهتمام برواية "الحميدي"، لكن من يقرأها، كما قرأتها سيدرك حقاً أنها عمل روائي هام بكل المقاييس، والكلام على بساطته يحمل معانٍ كبيرة، وسأترك للقارئ محاكمة كلامي.‏