«عادة ما تترافق وفرة الإنتاج الزراعي بالنعمة، وندرته بالنقمة، أما أن تسود النقمة في حالتي الوفرة والندرة، فهنا لا بد من وجود إشكال معين، وللتدليل على هذه الظاهرة، وتبيانها، نضرب أمثلةً عدّة، تدور جميعها في فلك الإنتاج الزراعي، الذي ينخفض ويرتفع حسب المتغيرات المناخية، والسياسات السعرية، والخطط الإنتاجية.
وسنبدأ بتناول هذه الأمثلة، ففي محافظة "الرقة" يشكل العاملون في الحقل الزراعي أكثر من ثلثي السكان، وكانت الزراعة عامل استقرار وتوطين بالنسبة لهم طيلة عقود من الزمن، قبل أن يعيش هذا القطاع أزمته الحقيقية، من الطفرة الإنتاجية لمحصول الذرة الصفراء، والتي جاءت دون إنذار مسبق، إلى الخسائر المزدوجة لمحصول العروة الصيفية للشوندر السكري، مني بها الفلاح، وشركات السكر على حد سواء، وسحب مظلة الدعم الاستراتيجي عن محصول الشعير، والعزوف المبرر عن زراعة القطن».
كثُرت بعدها مطالبات اتحاد الفلاحين بضرورة استلام كامل الإنتاج من الفلاحين، ووجهت الحكومة على إثرها مؤسسة الأعلاف بتواصل عمليات الاستلام حتى انتهاء موسم التسويق، على أن يتم استلام المحاصيل في المساحات المرخصة أصولاً فقط، واستثناء المساحات المزروعة خارج الخطة، والآن وبعد مضي أكثر من ستة أشهر على انتهاء عمليات التسويق، لم تصرف قيم المحصول سوى للكميات المسوقة قبل نهاية عام /2008/، وما زال باقي الفلاحين في انتظار أن تُفرج المؤسسة عن أثمان محاصيلهم، التي بلغت كمياتها في "الرقة" وحدها /138/ ألف طن
ذكر ذلك المزارع "سالم الخليل"، وهو يتحدث لموقع eRaqqa بتاريخ (29/6/2009)، عن واقع المحاصيل الزراعية في محافظة "الرقة"، وأسباب تعثرها إنتاجاً وتسويقاً.
وتحدّث لموقعنا المهندس الزراعي "علي الفياض"، عن تجربة زراعة العروة الصيفية لمحصول الشوندر السكري في المحافظة، قائلاً: «طبقت مديرية زراعة "الرقة" خلال خطة العام الفائت /2008/، تجربة زراعة عروة صيفية لمحصول الشوندر السكري، تُزرع في آب وتُقلع في آذار، وكانت الخطة تقضي بزراعة /3600/ هكتار من العروة في عموم المحافظة، نُفذ منها /1800/ هكتار، وكانت النتائج غير مبشرة، فإجمالي الإنتاج وفق المساحة المنفذة بلغ نحو /22/ ألف طن، أي بمعدل /1,23/ طناً في الدونم الواحد، في حين يتراوح إنتاج المحصول بعروتيه الخريفية والشتوية ما بين /8/ ـ /10/ أطنان، وتكبد خسائرها مناصفة الفلاحون، وشركات السكر، التي لم تحقق طاقتها الإنتاجية اليومية.
وقد تقاذفت الجهات المعنية مسؤولية عدم نجاح التجربة الجديدة، والمتمثلة في تأخر توزيع البذار للفلاحين، وتجاوزهم المواعيد المثلى للزراعة، واعتماد أصناف بذور غير تلك التي أُجريت عليها التجارب، وجهل الفلاح بالأساليب العلمية لإدارة هذه الحقول ورعايتها.
وقد تم اعتماد هذه العروة، لأنها تتيح إمكانية تطبيق دورة زراعية ثلاثية كل عامين، وتمتاز بارتفاع نسبة حلاوتها واحتياجها المائي القليل، كما أنها تؤمن مجموعاً خضرياً كبيراً يستخدم كأعلاف للثروة الحيوانية، ولا تتعرض لأمراض التلف والذبول جراء ارتفاع درجات الحرارة، لأن المحصول يقلع شتاءً».
وحول الطفرة الإنتاجية لمحصول الذرة الصفراء، يقول المهندس الزراعي "أحمد إيبش": «تتغنى "الرقة" بتصدرها لقائمة المحافظات المنتجة للذرة الصفراء، وهي تحتل المرتبة الأولى على مستوى القطر إنتاجاً وتسويقاً، وقد تقلّصت المساحات المزروعة بالمحصول في السنوات الأخيرة، نتيجة انخفاض سلالم التسعير لدى مؤسسة الأعلاف، إلا أن زراعة المحصول عادت للازدهار في موسم العام الفائت /2008/، بعد أن رفعت المؤسسة أسعار المحصول لحدود /17/ ألفاً للطن الواحد، وجاوزت المساحات المزروعة عتبة الـ /24/ ألف هكتار.
وبدأت مشكلة الذرة الصفراء ومنتجيها، بعد أيام معدودة من بدء عمليات التسويق، وإعلان مؤسسة الأعلاف المفاجئ عن انتهاء التسويق بحجة أنها استلمت كامل احتياجها من المادة، وكانت المؤسسة حينها قد استلمت /30/ ألف طن فقط من إنتاج محافظة "الرقة"، ولم تكن الكميات المسوقة لتشكل أكثر من ربع توقعات الإنتاج، واضطر الفلاحون، وخاصة أولئك الذين جنوا محاصيلهم إلى بيع إنتاجهم في الأسواق المحلية وبأسعار تقل كثيراً عما حددته المؤسسة».
ويضيف "إيبش" قائلاً: «كثُرت بعدها مطالبات اتحاد الفلاحين بضرورة استلام كامل الإنتاج من الفلاحين، ووجهت الحكومة على إثرها مؤسسة الأعلاف بتواصل عمليات الاستلام حتى انتهاء موسم التسويق، على أن يتم استلام المحاصيل في المساحات المرخصة أصولاً فقط، واستثناء المساحات المزروعة خارج الخطة، والآن وبعد مضي أكثر من ستة أشهر على انتهاء عمليات التسويق، لم تصرف قيم المحصول سوى للكميات المسوقة قبل نهاية عام /2008/، وما زال باقي الفلاحين في انتظار أن تُفرج المؤسسة عن أثمان محاصيلهم، التي بلغت كمياتها في "الرقة" وحدها /138/ ألف طن».
وعن واقع محصول الشعير، ورفض مؤسسة الأعلاف لاستلامه، ومعاناة الفلاحين جراء ذلك، يحدثنا المهندس الزراعي "حمد البكار"، قائلاً: «يعد الشعير أحد أهم المحاصيل الإستراتيجية في سورية إلى جانب القمح والقطن، وذلك لاستخدامه كمادة علفية جاهزة للثروة الحيوانية، وكان يُزرع بعلاً في منطقة الاستقرار الثانية في "الرقة"، ومروياً في مناطق الاستقرار الثالثة والرابعة والخامسة.
ويتصدر الشعير قائمة المحاصيل الزراعية كافة من حيث المساحة المزروعة، إلا أن تعاقب سنوات الجفاف، وتدني مردودية الإنتاج في وحدة المساحة، وانخفاض سلالم تسعير المحصول، ساهم في انحسار المساحات المزروعة بالشعير في المحافظة، ففي خطة هذا العام زرع /178/ ألف هكتار من الشعير البعل، من إجمالي الخطة المقررة والبالغة /392/ ألف هكتار، أي بنسبة تنفيذ /46%/، كما لم تتجاوز نسبة تنفيذ الشعير الحب حاجز الـ/59%/.
لم يكن هذا العام خير من سابقه، لجهة معدلات الهطول المطري، وعليه فإن كافة المساحات المزروعة بعلاً لا يمكن حصادها، ولكن المشكلة لم تتوقف عند ذلك، بل تجاوزتها إلى رفض مؤسسة الأعلاف استلام المحصول من المنتجين، وخروج مادة الشعير بالتالي من حزمة المحاصيل الإستراتيجية، فحتى هذا التاريخ، وموسم التسويق يشارف على الانتهاء، لم تستلم مؤسسة الأعلاف أي كمية تذكر من المحصول، رغم الأسعار التشجيعية التي أعلنت عنها وهي /16/ ليرة للكغ الواحد».
انحسرت المساحات المزروعة بالقطن في المحافظة، وعن ذلك يحدثنا المهندس الزراعي "حسين الجلغيف" قائلاً: «يشكل القطن مصدر رزق لنسبة كبيرة من أبناء محافظة "الرقة"، وكان يُزرع بمساحات شاسعة متجاوزاً الخطط السنوية المقررة، في ضوء المردودية الإنتاجية العالية للمحصول مقارنة بالمحاصيل الصيفية الأخرى، وتحقيقه هوامش ربح واسعة، وكان متوسط إنتاجها يقارب /400/ ألف طن.
وخلال السنوات القليلة الفائتة، شددت وزارة الزراعة على مديرياتها ومصالحها بضرورة إلزام الفلاحين بالخطة الزراعية للمحصول، وتغريم كل من يتجاوزها، وبذلك تم تقليص المساحات المزروعة بالقطن، وتحجيم إنتاجه، وفي خطة هذا العام بلغت المساحات المزروعة بالقطن في "الرقة" نحو /43/ ألف هكتار، من إجمالي الخطة البالغة /51/ ألف هكتار».
ويجمل الفلاح "حمود الخلف" المعاناة بقوله: «تجمع المزروعات التي استعرضنا مشاكلها سلة المحاصيل الإستراتيجية، التي اُعتمدت أساساً لدورها في تحقيق الأمن الغذائي، ودعمها للاقتصاد الوطني، ولا يمكن أن ننكر الجهود الجبارة التي بُذلت في سبيل تحقيق الاكتفاء الذاتي من هذه المواد، والانتقال من الندرة إلى الوفرة في الإنتاج، وصولاً إلى تحقيق فوائض تصديرية تدعم الخزينة العامة بالقطع الأجنبي النادر.
ويمكننا من خلال نظرة متأنية على واقع الزراعة في محافظة "الرقة"، ولأهم محاصيلها، أن نتبين أنها في حالة أزمة حقيقية، ولا تتوقف هذه الأزمة عند حدود تدني الإنتاج وتقلّصه، بل ينسحب على الطفرات الإنتاجية أيضاً، التي تستدعي مشاكل من نوع آخر، من حيث تأمين قيم المحاصيل، وأسواق التصريف، وسواها، وعليه فإن السياسات الزراعية يجب أن تلاءم بين كلف الإنتاج الحقيقة، وسلالم تسعير المحاصيل من جهة، وبين حاجة القطر من مختلف هذه المواد وتأمين أسواق التصريف من جهة ثانية».