«تشكل الأنهار علامات الحياة للحواضر التي تمر بها، فعلى ضفافها قامت الحضارات وازدهرت، وشق الإنسان الأول الترع، وعمّر الأراضي، وعرف الزراعة، وكانت تلك بدايات تكوين الاستقرار البشري الأول، والتي شكلت الزراعة، ومصادر المياه التي لا تنضب، أساسها المتين، ولم يكن نهر "الفرات"، بعيداً عن هذه الحالة، وقامت على ضفتيه حضارات، وممالك خالدة، كممالك "توتول" و"ماري" و"بالس"، التي ما تزال آثارها شاهدة على عظمة الإنسان على مر العصور.

ورغم أن نهر "الفرات" يحمل كغيره من الأنهار علامات الحياة والخصب، فهو يحمل أيضاً الهلاك والموت، فمع تجدد مواسم الفيضانات، كان "الفرات" يتحول إلى سلطان لا يُلجم، ويفيض عن مجراه ليلتهم المنازل والزرع والماشية، ولا ينحسر إلا وقد تحولت الحواضر على ضفتيه إلى خراب.

تتغنى "الرقة" باحتضانها لبحيرة "الأسد"، إحدى أنقى البحيرات في العالم، وقد حافظت الجهات المعنية على نقاء البحيرة عبر منع تصريف المياه غير الآمنة إلى البحيرة، سواء الناتجة عن الصرف الصحي أو الزراعي، وما تزال جمعية أطباء "الرقة" غير مستثمرة بسبب عدم إيجاد حل لمشكلة الصرف الصحي فيها، علماً أنها الجمعية السكنية الوحيدة التي أنشئت على ضفاف البحيرة، ولكن ذات التدابير لم تتخذ فيما يخص نهر "الفرات"، فشبكات الصرف الصحي في مدينتي "الرقة" و"الثورة"، وكافة التجمعات السكنية على طول مجرى النهر، تصب في نهر "الفرات"، وتسبب تلوثه

مع بناء سد "الفرات" وتشكّل بحيرة "الأسد"، انحسر النهر في سريره، وكفّ عن عنفوانه الصاخب، وباتت التجمعات السكانية تشهد استقراراً لم تشهده، فتجدد الأمل، وانطلقت مشاريع استصلاح الأراضي بالتوازي مع بناء القرى النموذجية، وحلم أهل "الرقة" بعهد جديد، يسوده استقرار لا يعكر صفوه فيضان النهر، أو جفاف يعقب انحباس الأمطار، وشعاع الأمل انطلق من معرفة الأهالي، ويقينهم التام، من أن مياه النهر الوفيرة ستغمر أراضيهم الواسعة، وستعمّرها، وسيشهدون عصراً جديداً عنوانه الأمل».

جانب من نهر الفرات

ذكر ذلك الباحث "حمصي فرحان الحمادة"، وهو يتحدث لموقع eRaqqa بتاريخ (1/9/2009)، عن نهر "الفرات" في ذاكرة الرقيين، والحضارات التي قامت على ضفتيه، وأشكال التعديات والعوامل المسببة لتلوث النهر في الآونة الأخيرة.

وأضاف "الحمادة" قائلاً: «رغم المنغصات، ولكن ذلك ما حدث فعلاً، فمشاريع الاستصلاح رغم أن معظمها كان على موعد مع التأخير، إلا أنها أنجزت ما يربو على /100/ ألف هكتار في "الرقة" وحدها، وساهمت في استقرار السكان في هذه المناطق وتحقيق توطينهم، ولكننا في سعينا الحثيث لإعمار وادي النهر، وتحقيق استقرار السكان في سريره، نسينا النهر نفسه، وأغفلنا الحد الأدنى من شروط سلامته، فكافة المصارف الزراعية الناتجة عن مشاريع الاستصلاح، تصب جميعها في مجرى نهر "الفرات"، وتسبب تلوث مياهه، في ظل الكميات الكبيرة من الأسمدة الكيماوية المنحلة في مياه هذه المصارف، وكان من الأجدى أن تنفذ محطات معالجة عند نهايات هذه المصارف قبل أن تصب في مجرى النهر، وأن تنفذ هذه المحطات بالتوازي مع مشاريع الاستصلاح».

محطة المعالجة في السبخة

وعن الإجراءات المتخذة لحماية بحيرة "الأسد"، يقول "الحمادة": «تتغنى "الرقة" باحتضانها لبحيرة "الأسد"، إحدى أنقى البحيرات في العالم، وقد حافظت الجهات المعنية على نقاء البحيرة عبر منع تصريف المياه غير الآمنة إلى البحيرة، سواء الناتجة عن الصرف الصحي أو الزراعي، وما تزال جمعية أطباء "الرقة" غير مستثمرة بسبب عدم إيجاد حل لمشكلة الصرف الصحي فيها، علماً أنها الجمعية السكنية الوحيدة التي أنشئت على ضفاف البحيرة، ولكن ذات التدابير لم تتخذ فيما يخص نهر "الفرات"، فشبكات الصرف الصحي في مدينتي "الرقة" و"الثورة"، وكافة التجمعات السكنية على طول مجرى النهر، تصب في نهر "الفرات"، وتسبب تلوثه».

وحول الإجراءات التي اتخذتها المحافظة لحماية النهر، والحد من تلوثه، يقول المهندس "إبراهيم العدهان"، مدير عام شركة الصرف الصحي في "الرقة": «تنبّهت الجهات المعنية في المحافظة للخطر الذي تشكله مياه الصرف الصحي، وأثرها البيئي على مياه نهر "الفرات"، وتم تنفيذ خمس محطات معالجة كخطوة أولى، وذلك في التجمعات القريبة من نهر "الفرات"، والتي تصب المياه الناتجة عن الصرف في مجراه، ومن هذه المحطات ثلاث قيد الاستثمار، وهي محطة "السبخة"، و"الكرامة"، و"المنصورة"، واثنتان قيد الاستلام في "دبسي عفنان"، و"معدان"، وستقوم الشركة العامة للصرف الصحي بتشغيل هذه المحطات بعد تأمين الكوادر الفنية والإدارية اللازمة لعمليات التشغيل والصيانة.

وقد بلغت كلفة كل مشروع قرابة /23/ مليون ليرة سورية، وصممت هذه المحطات لاستيعاب، وتشغيل مياه الصرف الناتجة عن تجمع سكاني يقارب /10/ آلاف نسمة، مع إمكانية التوسع المستقبلي حتى /20/ ألف نسمة، وستسهم هذه المحطات حال تشغيلها في الحد من تلوث مياه النهر، واستخدام المياه المعالجة في ري المحاصيل الزراعية.

ودُرس مشروع محطة المعالجة في مدينة "الرقة" ضمن المشروع المتكامل للصرف الصحي في المدينة، وقد انتهت ثلاث مراحل منه حتى الآن، وما تزال المرحلة الرابعة متوقفة لحين تعديل الدراسة الفنية للمشروع، وقد أُنجزت محطة الرفع الخاصة بالمشروع، وبعد فشل مشروع القرض الإسباني، أُعلن مؤخراً عن تنفيذ محطة المعالجة، وسيباشر بتنفيذها حال رسو العقد على إحدى الشركات العارضة».

ويضيف "العدهان"، قائلاً: «يتمثل الخطر الحقيقي لأقنية الصرف في إمكانية تأثيرها على مصادر مياه الشرب، فنهر "الفرات" يعد المصدر الوحيد لمياه الشرب في مدينة "الرقة"، وبعد استثمار مشروع مياه "تل أبيض"، وبادية "الكنطري"، ومن قبله مشروع "عين عيسى"، باتت الغالبية العظمى من سكان المحافظة تعتمد على مياه "الفرات"، كمصدر لمياه الشرب الصحية والنقية والعذبة.

لم يكن لمشكلة التلوث وجود عندما كان تدفق النهر غزيراً، ومع تدني منسوب مياه النهر، نتيجة تعاقب سنوات الجفاف التي أثرت بدورها على الحوض المغذي للنهر، طفت هذه المشكلة على السطح، وجاء التوسع في مشاريع استصلاح الأراضي، ومشكلة الصرف الصحي والزراعي الذي يصب في مجرى النهر، لتزيد وتفاقم من أزمة تلوث مياهه، وتخوف المواطنين من عدم نقاوة المياه التي تصلهم.

ورغم ذلك تؤكد مصادر المؤسسة العامة لمياه الشرب في "الرقة"، أن المياه التي تصل إلى منازل المواطنين آمنة، وصحية، بسبب آلية التنقية، والتعقيم المتبعة في محطة التصفية، وتضيف هذه المصادر أن وجود الكلور في نهاية الشبكات الفرعية يضمن جودة المياه وخلوها من العوامل الممرضة».

وعن مختلف أشكال التعديات والملوثات التي تطال مجرى نهر "الفرات"، والإجراءات الواجب اتخاذها لمنعها، يقول الباحث "الحمادة": «لا تقف مشكلة تلوث مياه نهر "الفرات" عند هذا الحد، ولا تقتصر على الملوثات الناتجة عن الصرف الصحي والزراعي، فمع قدوم فصل الصيف، وبدء موسم السياحة والاصطياف، ومع كثرة المستجمين على ضفاف النهر، تتجلى ملامح أخرى وأشكال مختلفة للتعدي على النهر وتلويثه، ليس آخرها غسيل السيارات، وما تخلفه من شحوم وزيوت تصب جميعها في مجرى النهر، وتتسبب بموت الأسماك، والكائنات الحية داخل مياه النهر، إضافة إلى استخدام السموم وغاز البوتان، وكافة الطرق المحظورة الأخرى في عمليات الصيد الجائر للأسماك، وغسيل الصوف، ورمي القمامة ومخلفات المتنزهين والمصطافين على ضفافه، وعلى الجهات المعنية أن تضع حداً لهذه التعديات، وتتخذ بحق المخالفين الإجراءات الرادعة، وبغير ذلك لا يمكننا حماية النهر والحفاظ عليه».