كان الخليفة "المنصور" قد أمر ببناء مدينة جديدة بالقرب من "الرقة" البيضاء، كان ذلك في الربع الأخير من القرن الثامن الميلادي /155هـ 772/م، وقد أوكل هذه المهمة إلى ابنه "المهدي"، الذي كلّفّ المهندس المعماري "أدهم بن محرز" بوضع خطة بناء المدينة.

من المحتمل أنّ "أدهم"، قد اعتمد على نظام بناء المدن في سياقه التاريخي، الذي يقضي بأن تكون المدينة مسوّرة، وداخل الأسوار يقتضي الأمر أنْ يُبنى المسجد الجامع، وقصر الإمارة والسوق التجاري، ومن ثمّ تخطيط الشوارع.. المهندس المعماري "أدهم" فَطِنَ إلى أنّ المدينة الجديدة التي كُلف بمهمة بنائها من قبل خليفة المسلمين، تقع على مقربة من حدود الدولة البيزنطية من جهة الشمال، كما أنها تقع على أطراف البادية ذات الطقس الحار والجاف، لذلك نجد أنّ المخطط جاء متوافقاً مع هذه الحالة البيئية.

شُيد مسجد "المنصور" في "الرقة" في الفترة الأولى لبناء المدينة، وهو يصنّف من المباني العباسية الأولى، التي حملت سمة العمارة العباسية التي أثرت وتأثرت بالموروث المعماري العالمي الذي سبقها. وكما أسلفنا سابقاً، أنّ قُربَ "الرافقة" "الرقة" من حدود الدولة البيزنطية، جعل منها مدينة عسكرية، لذلك نجد أنّ أغلب مبانيها بُنيت على شكل قلاع أو حصون، أي أنها منعزلة وسط ساحة، ومنها مسجد "المنصور" ذو الأبعاد /100×98/م، الذي تقارب مساحته مساحة مسجد بني "أمية" في "دمشق".

لقطة لأقواس الجامع من الداخل

تشكل الأطلال المتبقية اليوم من مسجد "المنصور" جزءاً يسيراً من المسقط الرئيسي للمسجد، الذي لم يبقَ منه سوى السور الخارجي وواجهة الحرم والمئذنة، التي بنيت في الفترة الزنكية. في عام /1161/م وأطلال بعض العضادات والمحاريب وبقايا بعض المداخل، التي جميعها خضعت مؤخراً لأعمال ترميمات منهجية.. ويقع المسجد الجامع مع قصر الإمارة المندثر في وسط المدينة القديمة، عند نقطة تقاطع شارع /23/ شباط مع شارع "سيف الدولة" في وقتنا الحاضر.

من الناحية المعمارية الصرفة يشير وجود المسجد في ساحة واسعة ومفتوحة، إلى أن المعماري يمتلك الحرية في فتح المداخل والمخارج على حد سواء، حيث نراه قد زاد من عدد المداخل في الأضلاع الشرقية والغربية والشمالية لتوفير وتسهيل عملية الدخول والخروج من وإلى حرم المسجد.. ويشير عالم الآثار الشهير "كريزويل" في كتابه "العمارة الإسلامية"، إلى أنّ مسجد "المنصور" في "الرافقة" "الرقة" قد أثرّ في مجموعة من المساجد الأخرى، التي شيدت في كل من العراق، ومصر، وتونس، وأن تلك المساجد كان لها نفس المواقع تاريخياً وجغرافياً، وجميعها شيدت في فترات تاريخية متقاربة، فنجد أنّ مسجد "الرقة" شُيد في سنة /155/هـ /772/م، ومسجد "سامراء" قد بُني في سنة/221/هـ /866/ م، ومسجد "أبي دلف، بُني في سنة /245/هـ /883/م، أما مسجد "أحمد بن طولون" فقد بُني في سنة /265/هـ /913/م.

لقطة لأقواس الجامع من الخارج مع االمئذنة

إنّ البيئة والمحيط قد فرضتا على المهندس المعماري، أنْ يمازج بين أنماط من أشكال الفنون المعمارية، إذ نجده قد استعار بنية سقف المسجد من فن العمارة السورية، حيث جاء هذا السقف على شكل جاملون مغطى بالآجر الأحمر المحروق بمقاسات كبيرة، ثم استعمال مادة اللبن المجفف تحت أشعة الشمس، ومادة الآجر في بناء السور والأقواس والأجزاء المعمارية الأخرى، فهو من نمط العمارتين الرافدية والفارسية. ويُنسب مسجد "الرقة" تاريخياً إلى أشكال العمارة ذات البيئة الصحراوية، لذلك نجد أنّ المساجد التي جاءت بعده، جميعها ذات بيئة صحراوية مثل "سامراء"، "المتوكلية"، ومصر، كما إنّ مواقعها داخل المدينة متشابهة، فكلها بنيت ضمن ساحات منفصلة مبنية على شكل حصون، وهذا الأمر فُرض على مثل هذه المساجد بشكل عام ومسجد "الرقة" بشكل خاص، ولمعرفتنا المباشرة به معمارياً وجغرافياً، فإنّ البناء مستقل من جميع الجهات.

هذا الواقع تطلب أنْ يخضع هذا المسجد الجامع، وجميع المساجد التي هي على شاكلته، إلى تصاميم تأخذ بعين الاعتبار سماكة الجدران، وتدعيمها بأبراج ملائمة لامتصاص الضغوط الناتجة من الأعلى، وخشية الانهيار لانعدام إمكانية الربط مع الجوار، التي تلعب دوراً كبيراً في استقرار الجدر..

إنّ موقع مسجد "الرقة" في بيئة صحراوية، أوجب على المعماري أن يفكر في بناء جدر كبيرة، لكي تعمل كعازل حراري لحماية المبني من الوسط الذي يحيط به، والانفتاح إلى الداخل باتجاه الصحن الرئيس الذي يحتوي على الموضأ، الذي يشكل نقطة هامة من الناحية المعمارية، وما يترتب على ذلك من الناحية الاجتماعية، كما أنّ الموضأ يلعب دوراً كبيراً في تلطيف وترطيب الجو الداخلي. ويتألف مسقط مسجد "المنصور" في "الرقة" من صحن واسع يحيط به الحرم وثلاثة أروقة تقع على الأضلاع الشرقية والشمالية والغربية، كما أنه من المفيد هنا أنْ نذكر أنه لحينه لم نستطع تحديد جهة الأروقة، ولا حتى جهة استناد العضادات وارتصافها، وهذا في الحقيقة راجع إلى عدم الاستمرار في الحفريات الأثرية.

بقي أن نشير إلى أنّ مسجد "المنصور" في "الرقة"، يعتبر بحق المدرسة المعمارية الأولى في العصر الذهبي للعرب في الفترة العباسية الأولى، وقد انتشر النمط المعماري الفني لهذا المسجد الفريد في أنحاء مختلفة من العالمين العربي والإسلامي آنذاك.. لقد قامت المديرية العامة للآثار والمتاحف بترميم سور الجامع الذي يضم عشرين برجاً لها شكل شبه دائري، كما تم ترميم مأذنته، التي شيدت في عام/1160/م في عهد "نور الدين زنكي"، وكذلك تم ترميم المداخل والمخارج والمحاريب.