«وقف التجريد بعد نهوضه عند حدود معينة مبتعداً عن التقييم والتقويم، وربما الحالة الراهنة والانفتاح على العالم هي سبب في ذلك، فبات جواز سفر لكل الفنانين بدعوى حريّة التعبير، وهذا أدى إلى حداثة أخذت بطريقها الفنان الحقيقي الرسام والمشرح المتفوق، ومن تعوزه هذه الصفات أخفى عيوبه بظاهرة التجريد، ما جعل عملية النقد أمراً لا طائل منه بما يشبه الحالة الاقتصادية السائدة المتمثلة بربح بعض الشركات الوافدة المتعددة الجنسيات من خلال "السفر والتوظيف الوهمي"».

والتحليل للفنان التشكيلي "جمال العباس" الذي تحدث لموقع eSuweda عن ظاهرة التجريد في ظل الطاقة الإبداعية للعمل الفني، والذي التقاه بمنزله في محافظة "السويداء" عبر الحوار التالي:

  • التجريد بتحليلك البصري هل يتحول من قدرة تعبيرية إلى عبث مجهول الاتجاه والمعنى؟
  • فضاءات تجريدية

    ** التجريد باعتقادي من أرقى وأبلغ التعابير التي تحاكي الوجدان بلغة الصمت الإيحائي، هو في حقيقته اختزال للمشاهدات البصرية والأصوات المسموعة بأبسط التغييرات التشكيلية المحدثة باللون… إنه موسيقا تتضمن كل معالم الرؤية التي تجعلك مدركاً لها ومتفهماً لقدرك وثقافتك، ويخطئ من يظن أن التجريد عبث يروق للبعض استخدامه لإخفاء جوانب لا يتمتعون بها… هذا النوع من الفن يحدث نتيجة تراكم وتجريب، ويكون عبثاً بالفعل إذا كان فنان التجريد لا يجيد الرسم الواقعي ومنه التشريح، ولا يعرف سيكولوجيا الألوان وحركة التكوين وإيقاع عملية الاختزال واستقرار الشكل، فمن يكتشف ذلك؟

    بالتأكيد إنه الناقد المثقف المتخصص، الذي يمتلك قدرات المعاينة للشكل وتحليله بصرياً، وعندما يستخدم الفنان معالم تشكيلية مقروءة أصولها واقع مشاهد ولا يغلب عليها الاختزال، تخرج منها طاقات إيحائية كبيرة تأتي في مصلحة المتلقي الذي يقف أمام اللوحة بتركيز متأملاً وباحثاً.

    من عوالم الإنسان

  • ما محور التميز والتأثير في تجربة الفنان؟
  • ** الذي يميّز تجربة الفنان عن سواها من التجارب هي طاقة الإبداع المتولدة من خصوصية العمل الفني، ومع الاستمرار تستقر هذه الطاقة في بحر من العوالم التصورية المتجددة والمتعددة الأوجه، وعندما يستجيب المبدع لنداءات عوالمه… تراه يغادر كل شيء حوله ليطلقها أخيراً على لوحته البيضاء مستخدماً اللون والشكل والخط والتكوين… والتجربة قد تخلو من المعنى والقيمة الفينة إذا لم تستند إلى مشاهدات تراكمية مدركة ومحسوسة من الواقع، فالثقافة المتنوعة تمنح الناتج الفني مدلولاته ومعانيه، وتساعد في تثمينه وجعله مؤثراً أكثر.

    جمال العباس

  • كيف تنظر إلى وجه المقاربة بين الكتابة التشكيلية والنقد الجمالي؟
  • ** الكتابة التشكيلية شيء والنقد الجمالي شيء آخر لكن يجمعهما خيط رفيع أهمه تقديم المحتوى الثمين في اللوحة للمتلقي، أما الفرق الجوهري بينهما فهو أن النقد يحتاج إلى إجادة لغتين أو أكثر، والتربع على أرشيف غني من الثقافة الفنيّة والعامة، والتمتع بقدرة اختراق الشكل في اللوحة وتحليله وفق المذهب الذي ينتمي إليه، يضاف إلى ذلك قدرة المقاربة بين النتاج المحلي والعربي والعالمي، والرصد الدائم لكل معالم الحركة التشكيلية وحداثتها والتفرغ الكلي للعمل، أما الكتابة التشكيلية رغم الاختلاف فتعتبر مقاربة إلى حد ما من النقد الجمالي.

  • ماذا عن حاجتنا اليوم إلى الثقافة البصرية؟
  • ** نحن بحاجة إلى ثقافة بصرية تدخل كقيمة جمالية في أساسيات الجمال في الحياة وإغراءات الترف الفكري، ومن هنا نرى أنه يجب على الرسالة الفنية أن تنقل مفاهيم الثقافة البصرية إلى كافة شرائح المجتمع عن طريق المحاورة والمعالجة العلمية بالفعل الذي يفتح مسارب الوصول إلى إدراك قيمة الجمال ومؤثراته على المجتمع والنمو الحضاري، فمثلاً "جمعية حماية البيئة" لو أدركت رسالتها الجمالية لرأيت الحدائق والمنتزهات هنا مماثلة لحدائق ومنتزهات لندن وباريس.

  • يؤكد الفن أن للرؤية التشكيلية دوراً في إدراك أهمية الموروث التاريخي، وتأكيد قيم الجمال في المجتمع، فهل لك أن توضح تحليلاً لهذا الدور؟
  • ** إذا وصلت الرؤية التشكيلية في اللوحة إلى جميع الناس فذلك يعدّ من أهم العوامل التنهيضية في رقي وتقدم الشعوب، ولولا فن التصوير الزيتي والنحت والخزف لما عرفنا شيئاً عن حضارة المصريين برسومهم ومنحوتاتهم.. كذلك الحضارات الأخرى عدا أن الصورة الفنية والمنحوتة والنقوش المحفورة مستمسكات جمالية ودلالية على عصرها إلا أنها متسمة بالخلود الأزلي الذي يجعلها منبراً معرفياً شديد الأهمية تقف عنده الأجيال المتعاقبة… وتتعرف منه على طرق التفكير والإبداع والتقييم والإنجاز في الموروث التاريخي.

    إذاً المفردات التشكيلية المتداولة في تراثنا الشرقي مستندة إلى الفنون الجميلة التي خلفتها الحضارات المتوافدة على بيئتنا المحلية، ورغم مرور /60/ عاماً على مزاولة الفن التشكيلي السوري مع النظر إلى تلك المستمسكات، والتعرف إلى دلالتها وخصوصيتها لم يخرج المتلقي بعد من المراحل الأولى في تذوق العمل الفني وفهم مقامه التعبيري، وهذا يوضح سبباً بيّناً من أسباب الأمية البصرية التي يعاني منها الحاضر اليوم، فالثقافة والانتماء يساعدان على إدراك قيمة الموروث التاريخي، والأهميّة الكبرى من معرفتنا به التي تنقلنا إلى مراحل متقدمة في فهم رسالة الفن التشكيلي واستيعاب مزاياه الحديثة، وبالتالي تذوق كل ما تقع عليه العين من مشاهد تحمل صبغة الجمال والهوية العربية.

  • تعمل الآن على دراسة معينة لمشروع شغل هاجسك منذ زمن فما الصور التي تسعى إلى كشفها في بحثك؟
  • ** تشغلني قضايا متعددة أهمها التعامل مع لوحتي الجديدة، والبحث عن سبل مثلى ترضيني وتحقق لي توازنات بدأت أفتقدها منذ فترة، وبالتحديد التعبير عن عالم الألوان والوصول إلى قراءات بصرية أكثر دقة في تصوير المحيط الذي أنتمي إليه، ومنذ زمن طرحت مشروعاً تشكيلياً ألزمت نفسي به والآن أعمل على تحقيقه، وهو يتعلق بدراسة أجريها حول صخور البازلت في منطقة "اللجاه"، مستكشفاً خبايا النفس البشرية التي سكنتها أو جاورتها واستمدت منها فلسفة البقاء والوجود.

    في سطور

    يذكر أن الفنان "جمال العباس" من مواليد "السويداء" عام /1941/، متخرج في كليّة الفنون الجميلة ـ جامعة "دمشق"عام /1969/، وهو عضو الاتحاد العام للفنانين الجزائريين والفنانين بدولة الإمارات العربية، وعضو الاتحاد العام للفنانين التشكيليين في "دمشق"، عمل "العباس" في بدايته كاتباً ومحاضراً في التشكيل منذ العام /1970/، وعمل في مجال رسم الموتيف الصحفي، وأقام خلال مسيرته الفنية معارض شخصية متنوعة في سورية والعالم.