اخترقته الرصاصة الأولى في فكه الأيسر، وشقت طريقها إلى الجهة المقابلة، نظر إلى البعيد، فوجد مصفحة تندفع للأمام وتطلق نيرانها بكثافة، مشى خطواته الأولى غير عابئ بالرصاص، فاخترقت الثانية يده اليسرى، ولم تمهله الثالثة ليلتقط أنفاسه فأصابته في كتفه، لم يئن، جثا على ركبتيه لينتزع بندقيته، فاخترقت الرابعة قدمه اليسرى، فخلع كوفيته عن رأسه، ومزقها...

وضمد بها جراحه النازفة، ووثب مسرعاً إلى أعلى المصفحة، ومن فجوتها صوب بندقيته إلى رأس قائدها فقتله، ولاذ بقية الجنود في جوانبها، توقفت نيران المصفحة وأخذت تترنح ذات اليمين وذات الشمال، حتى توقفت عن الحركة عند كتف منحدر، خرساء صماء مستسلمة لقدرها، لا تهتدي طريقاً.

كان المجاهد الكبير في العشرين من العمر عندما التحق بالثورة السورية الكبرى، وكان يتميز بقوة جسمانية فائقة، وينتصب بقامته كالرمح، عريض المنكبين، مستدير الوجه، أبيض، عرف بالشجاعة وقوة البأس، واشتهر بالرجولة واقتحام المصاعب، لا يخشى الموت لأنه آمن بالمقولة السائدة "اطلب الموت توهب لك الحياة"، ومعروف عنه أنه باع قطعة من أرضه ليشتري بثمنها بندقية حربية، ولبى صوت قائد الثورة، وسار مع أبناء بلدته باتجاه الحرية

قفز عن ظهرها إلى الأرض، وأسند كتفه إلى جانبها الأيمن، ودفعها بكل ما تبقى له من قوة إلى المنخفض الجانبي، حتى إن أصابع أقدامه خرجت من حذائه.

الأستاذ حسن حاطوم

انقلبت المصفحة رأساً على عقب، إلى الحفرة الجانبية، واشتعلت فيها النيران وخرج من فيها إلى العراء رافعين سواعدهم، مستسلمين، وولوا الأدبار تاركين أسلحتهم وذخيرتهم غنيمة سهلة للقادمين من الأمام.

هو ليس مشهداً من فيلم "عمر المختار" إنها حقيقة رجل منسي من مجاهدي الثورة السورية الكبرى، إنه المجاهد "صالح القضماني" من أهالي بلدة "قنوات"، الذي باع قطعة أرض، واشترى بندقية وضعها على كتفه وتزنر بالرصاص، عندما التحق بالثوار عصر اليوم الأول قبل معركة "المزرعة" الشهيرة وتحديداً في معركة "تل الخروف" في الثاني من آب عام 1925.

يقول المؤرخ الراحل "نعمان حرب" في مذكراته "أبطال منسيون" عن المجاهد "القضماني" قاهر الدبابة "الفرنسية": «استمر المقاتلون في معركتهم، و"القضماني" يتقدمهم والضمادات اكتست لون الدم، وبعد أن توقف النزف، سمع صوتاً يناديه من بعيد "الحقني يابو قاسم" فالتفت إلى مصدر الصوت وإذ بأحد أبناء قريته ويدعى "ابراهيم الجرماني" يفترش الأرض، ويئن من جرح بليغ أصيب به، فركض مسرعاً إليه رغم الألم في ساقه ووجهه وكتفه، وحمله على ظهره ونقله إلى مكان آمن خارج المعركة، وعندما اطمئن عليه، أحس أن جسده غير قادر على العمل، وخشي أن يلفظ أنفاسه بين اللهب ودوي الرصاص والشظايا، غير أن الثوار انتصروا، وبدأت فلول الفرنسيين بالانسحاب بعيداً، وبعد سنتين ونصف بقي "القضماني" في بيته المتواضع، ويعمل في أرضه، وآثار الجراح بقيت في فكه، ولا تخرج الكلمات من فمه بوضوح، وعمّر حتى تجاوز الثمانين عاماً، وبقي كالصفصاف متنقلاً بين كرومه وبيته، كالمدرعة الزاحفة إلى الجبهة، يجللها وقار الشيخوخة، حتى غادر الدنيا عام 1983م».

يقول الأستاذ "حسن حاطوم" الباحث في الآثار وابن بلدة "قنوات" عن حياة المجاهد "صالح القضماني": «كان المجاهد الكبير في العشرين من العمر عندما التحق بالثورة السورية الكبرى، وكان يتميز بقوة جسمانية فائقة، وينتصب بقامته كالرمح، عريض المنكبين، مستدير الوجه، أبيض، عرف بالشجاعة وقوة البأس، واشتهر بالرجولة واقتحام المصاعب، لا يخشى الموت لأنه آمن بالمقولة السائدة "اطلب الموت توهب لك الحياة"، ومعروف عنه أنه باع قطعة من أرضه ليشتري بثمنها بندقية حربية، ولبى صوت قائد الثورة، وسار مع أبناء بلدته باتجاه الحرية».