صامتٌ كفنه عنيدٌ في إرادته، شجيٌ كريشته، حزينٌ في ألوانه التي يستخلصها من فلوكلوره، يجوب الحياة في مرسمه البسيط والمفعم بالحيوية، تغنّى بلوحاته ليحملها عشرات السنين فوق كتفه ويجوب البلاد باحثاً عن مسكنه الفني، أبى أن يتخلى عن ريشته رغم قساوة الحياة، ليختار من الألوان مأكله ومن اللوحات منزله ومن الريشة سلاحه في مجابهة زمن نسّى معاني الفن التشكيلي، مكوناً مدرسته الخاصة من عمق المعاناة ومأسي التعب، متأثراً ببيئته الخلابة وينابيع مدينته الصافية.

الفنان "دلباز برازي" مواليد (1978) من مدينة "رأس العين" التي تبعد عن "الحسكة" 85 كيلو متراً ،التقاه موقع eHasakeh في مرسمه الغرفة التي يقضي فيها معظم حياته وأعماله ،ليحدثنا قائلاً: «الرسم أصبح جزء مقدس في حياتي بل كل لوحة أصبحت قطعة من جسدي، حتى أني أرى نفسي في كل لوحة رسمتها لأنها تعبر عن واقعي الذي أعيشه ساكباً جلّ آلامي في ألواني التي أنقشها على لوحتي.

أنا أراه موهبة فنية فذّة، ولوحاته تعبر عن تجربته المريرة ولكن إرادته ستفتح له أبواب المستقبل، ومن يملك مثل إرادة "دلباز" سيحقق أحلامه

وعن بداية حياته الفنية؟ وتجربته حدثنا "برازي" قائلاً: «بدايتي مع الرسم كانت موهبة في المرحلة الابتدائية وبالتحديد في الصف السادس عام (1990) من خلال رسم الشخصيات بالفحم، حيث شجعني معلمي وأصدقائي، كما كان لخالي "عمر" دور كبير في ممارسة هذا الفن، لأنتقل بعدها للمرحلة الإعدادية والرسم هاجسي الوحيد، لكن ظروفي المادية جعلتني أترك المدرسة وأنا في الصف التاسع، وفي عام 1994 في لحظة تخيلت أني سأبعد عن عالم الرسم بعد دخولي في مهنة "الخياطة"، زارني الفنان "رمضان" من مدينة "رأس العين" ليشجعني على متابعة الرسم بعد أن فتح لي أبواب مرسمه للمتابعة، وأول تجربة حقيقية لي كانت عام 1995 عندما رسمت لوحة إنسانية عن معاناة شعوب المناطق الإفريقية وأطفالهم المشردين، ليبقى الرسم حلم يراودني في كل مكان.

صورة لرجل مسن كان حلمه التعليم

وهذا الحافز جعلني أتمسك بعدة الرسم وأجابه الحياة، فحملت مرسمي على كتفي وأصبحت أجوب المحافظات بحثاً عن عمل يساعدني في معيشتي وممارسة الرسم، بعد أن واجهت رفض كبير من أهلي الذين كانوا يرون أن الرسم لا يؤمن مستقبل الإنسان، كما حاولت متابعة وقراءة الكتب عن عمالقة الرسم ومدارسهم لكي لا أحرم نفسي من أكاديميتي في العمل والحمد لله الأن لدي خبرة ومعرفة في علم الفن أنافس بها العديد من الفنانين الأكاديميين.

  • هل تملك نظرة خاصة في طرح أعمالك الفنية؟ وما النظرة التي تريد إثباتها اليوم؟ وإلى أي مدرسة ينتمي ولائك؟
  • صورة رباعية التي تحدث عنها في اسلوبه الخاص

    ** لأني لا أقتنع بالتقليد الدائم لمدرسة فنية معينة؛ ولأني أؤمن أن كل أنسان لديه القدرة على تشكيل مدرسة، كان همي الدائم أن أستفيد من تجربة كافة المدارس بحيث أشكل مدرسة فنية خاصة بي كرسام، وهذا ما وصلت إليه بعد جهد طويل فقد أسست أسلوب خاص بي أقوم برسم اللوحة في أربع اتجاهات بحيث كيفما أدرنا اللوحة نشاهد موضوع مختلف عن الشكل الذي قبله، ففي أحدى لوحاتي مثلاً رسمت بالجهة الأولى آية قرآنية وعندما ندير اللوحة للجهة الأخرى تظهر فتاة فرنسية بزيها الغجري وفي الجهة الثالثة أم تحمل طفلها على كتفها وأم أخرى مستلقية تراقب رضيعها أما في الجهة الرابعة عبارة عن مجموعة من الأعين للجن والإنس تراقب ذاك الطفل الرضيع ، وهذا الأسلوب تطلب مني ثلاث سنوات من العمل والتفكير فلقد أدخلت فيه كافة المدارس، وعرضت تلك اللوحات وأدهشت العديد من الفنانين عندما كنت أشرحها لهم.

  • أنت من بيئة عفوية بطبيعتها وخلابة بجمالها الساحر ماذا أضافت هذه المدينة لتجربتك؟ وكيف كانت نظرت الناس وتعاملهم معك؟
  • لوحة فحمية للشاعر الكبير جكر خوين

    ** مدينتي هي مدرستي الأولى التي أشبعتني وأروتني بطبيعتها الساحرة وكأني عشت في مملكة الرسم الساحرة، حيث لونت صفحاتي من أشجارها وتحركت ريشتي مع صفاء ينابيعها، فهي المدينة الفاضلة وذات الفضل الكبير في تطويري، أما نظرت الناس لي فكان نصيبي مثل نصيب كل رسام يعاني من التشجيع في مجتمعه الذي لا يدرك قيمة الفن إلا نادراً.

  • حدثنا عن أجمل اللحظات التي تشدك إلى اللوحة في المرسم؟
  • ** ما يشدني إلى اللوحة هو مأساة الناس والمجتمع وكل ظرف صعب أمر فيه ، فكل معاناة إنسانية أراها أعبر عن ألمي بها في اللوحة، وخاصةً معاناة المرأة في الحياة فقد خصصت جزء كبير من لوحاتي في هذا المجال، ولا أترك المرسم إلا بعد صب جام حزني في اللوحة.

  • هل حددت خياراتك كرسام لتجربتك الفنية ؟
  • ** الفن بالنسبة لي رسالة وأمانة من الصعب أن أتخلى عنها مهما كانت الظروف، لذا حددت خياري أن أعيش مع الفن وأشاركه آلامي وأحزاني وفرحي وسعادتي، فالفن أصبح أبٌ روحي بالنسبة لي وصديق دربٍ مثالي، وخياري الأساسي أن أبني لنفسي مدرسة وبصمة خاصة تكون تركة قادمة للأجيال.

  • صادفت في الطبيعة الكثير من الفنانين ماذا قدموا لكَ؟
  • ** قابلت العديد من الفنانين من خلال تجربتي وكان تأثري الكبير في رسامي منطقتي مثل الرسام "ديلاور يوسف" الذي شجعني كثيراً على المتابعة والفنان الأكاديمي "دروست" والرسام "لقمان أحمد" حيث أخذت من تجاربهم أساليب جديدة جمعتها في مخيلتي، كما كان اهتمامي وقراءتي لمدارس الفن العالمية تأثير خاص بالرسام "بيكاسو" صاحب المدرسة التكعيبية، ولا أنسى أنني استفدت كثيراً من الفنان السوري الكبير "عمر حمدي".

  • حدثنا عن معارضك واهم أعمالك؟
  • ** لقد احتفظت بمعظم لوحاتي من خلال تجربتي، فلقد رسمت ما يقارب (300) لوحة منها (150) "بورتريهات" بالفحم و(100) لوحة زيتية والباقي مختلفة الأساليب، اعتمدت في أعمالي على عدة مدارس معظمها (كلاسيكي وتجريدي وتعبيري وتكعيبي وسريالي وأحياناً الأسلوب الوحشي).

    أول معرض لي كان عام 2001 في مدينة "رأس العين" بلوحات فحمية، ومعرض عام 2006 في المركز الثقافي برأس العين وكانت لوحاتي كلها فلكلورية عن واقع منطقة الجزيرة، ومعرض أخر عام 2010 في المركز الثقافي بمدينة "رأس العين"، أما أخر معارضي كان المشاركة بمهرجان الحزب الشيوعي في "القامشلي" في شهر نيسان من هذا العام الذي اعتبرته فسحة أمل لي من خلال وجود زوار ناقشوني بلوحاتي مما أسعدني بوجود جمهور يتقن معالم اللوحات الفنية، كما شاركت بمعرض في "تركيا" ودعيت لمعرضين في "العراق" و"لبنان"، ولكن أنجازي الكبير هو أني الأن أقوم بتعليم ثمانية أطفال في مرسمي وهم خامة وموهبة فنية رائعة سأقف لجانبهم لتطوير الحراك الفني في مدينة "رأس العين".

    *ما رأيك بواقع الفن التشكيلي في المنطقة؟

    ** هناك فنانين كبار ولكن يعيشون في غرفة مظلمة تحتاج لتسليط الضوء عليهم، فعدم الاهتمام بهم يبعدهم يوماً بعد يوم عن هذا الفن الراقي كما يمحي مواهب واعدة سيكون لها دور كبير في المجتمع، فحلمي أن يتم الاهتمام بالفنان وهو حي وليس بعد مماته فقط.

    الفنان "ديلاور يوسف" قال عن "برازي": «هو إنسان مبدع ويملك ذوق جمالي رفيق في الرسم، واتخاذه لأسلوب خاص بالرسم يدل على عبقريته التي أتمنى أن توصله للنجاح والوصول إلى العالمية، فنجاحه لا يتطلب سوى بعض الاهتمام الذي سيدفعه لبناء مدرسته والوصول إلى حلمه».

    الأستاذ "نبي إبراهيم" قال عن "برازي": «أنا أراه موهبة فنية فذّة، ولوحاته تعبر عن تجربته المريرة ولكن إرادته ستفتح له أبواب المستقبل، ومن يملك مثل إرادة "دلباز" سيحقق أحلامه».

    الأستاذ "محمود عيسى" قال عن "برازي": «إنسان مبدع وموهبة كبيرة في مجال الرسم، لديه إحساس ولمسة خاصة في اللوحات وبرأي أراه بداية مشجعة لمدينتا التي تملك مثل هذه الخامات، وأتوقع أن ذوقه الرفيع سيوصله للنجاح متمنياً له كل التوفيق».