هي ابنة لأسرتين من أعرق الأسر الدمشقية، فأبوها ضابط من أسرة "العظمة" المحافظة التي تولى عدد كبير من أفرادها مناصب كبيرة في الدولة العثمانية، وأمها تنحدر من أسرة "المهايني" الذين عرفوا بالميل إلى الانفتاح وحب الثقافة.
إنها الدكتورة "وحيدة العظمة" التي عاشت حياة مليئة بالأحداث والقصص والإنجازات، ففي البداية لابد من ذكر أن تباين العائلتين اللتين خرجت منهما الدكتورة "وحيدة" كان دافعاً قوياً دفعها إلى التميز، فالتاريخ أن جدتها لأمها شيدت من مالها الخاص مبناً في ساحة المرجة، افتتح فيه فيما بعد مسرحاً؛ قدم في أربعينيات القرن العشرين عروضاً مسرحية، ليتحول إلى صالة عرض لاحقاً بإسم "سينما غازي"، بينما كانت عائلة "العظمة" معروفة بصرامتها ومحافظتها وميلها الشديد إلى التفوق والعلم، وهذا أثر على الطفلة "وحيدة" التي تمتعت منذ نعومة أظافرها بقوة الشخصية والتفوق، فكانت أول طبيبة تعمل في "الجيش العربي السوري"، "eSyria" زار الدكتورة "وحيدة العظمة" بتاريخ "11/10/2011" حيث بدأت الدكتورة "العظمة" الحديث عن نفسها بالقول:
من يراجع السيرة الطويلة للدكتورة وحيدة العظمة يعرف مدى إصرارها وتفانيها في عملها ووفائها للأشياء التي تؤمن بها، وفي الحقيقة أني أستطيع أن أطلق عليها لقب "المرأة الحديدة"
«توفيت والدتي وأنا ما زالت يافعةً فوقع علي عبء العناية بأخواتي السبعة لكوني بكر العائلة، كانت الهموم كبيرة والعبء ثقيل إلا أن ثقة النفس أعطتني دفعاً للتغلب على المحن، تعايشت مع الحياة الرتيبة داخل المنزل واستطعت التغلب على كل السلبيات الموجودة وبخاصة تلك التي كانت تبثها خالتي المقيمة في المنزل والتي كانت تصر على ترديد الأشياء السلبية حولي وحول حياتي ومستقبل زواجي.
هذه التلميحات أعطتني دافعاً للتمسك بالعلم طريقاً للتحرر من تلك المفاهيم الضيقة العتمة، ساعدني على ذلك والدي الذي أقام في تركيا في مقتبل الشباب ودرس في مدارس استانبول، والتحق بكليتها الحربية، فكان يحمل فكراً متنوراً عند عودته لدمشق، والذي كان له تأثير كبير في ثقافة العائلة حيث ساوى بين البنين والإناث، وإيمانه منه بالمساواة جعله يختار لأبنائه وبناته مدرسة مختلطة، أمضيت دراستي على مقاعدها في كافة المراحل التعليمية، وتخرجت منها حاملة الشهادة الثانوية السورية والفرنسية.
لقد كان عدد الطلاب في الصف محدود؛ يقارب العشرين معظمهم من الذكور، فقط أربع طالبات، وكنت وصديقتي "سعاد" نجلس في المقعد الأول، وكان التنافس العلمي شديداً بين الفريقين، وكان الفوز غالباً من نصيب الفتيات، إلا أن العلاقة الاجتماعية كانت ودية بين الفريقين في الغالب».
كانت "وحيدة العظمة" تطمح بأن تكون كاتبة، أو عالمة نظراً لحبها للأدب وتفوقها بالعلوم، إلا أن آمالها خابت عند بوابة الجامعة السورية، التي اقتصرت مدرجاتها على مدرستي الطب والحقوق، أو كان عليها الالتحاق بمدرسة المعلمات والعمل في سلك التربية والتعليم.
آثرت اختيار مدرسة الطب، حيث سبقتها إليها عدة من بنات جيلها إلا أنها تعتقد بأنها الأولى في ممارسة مهنة الطب ميدانياً، ولكن من المفيد لنا أن نعلم بأن الجامعة السورية كانت ترحب بكل من أراد ارتيادها من العرب والأجانب، وبالرغم من ذلك كان عدد الطلاب محدوداً لا يتجاوز السبعين طالباً، وكانت هي الطالبة السورية الوحيدة، مع زميلة لها من العراق الشقيق، وعن ذلك تحدثت بالقول:
«استغرقت دراسة الطب سبع سنوات في مرحلتيه الأولى النظرية، والثانية السريرية، وكانت قاعات التدريس تقع في التكية السليمانية، قريباً من بناء خصص بعض أقسامه لاستضافة الجثث الضرورية لدراسة علم التشريح، وكانت تمقت منظر الهياكل العظمية برائحة الفورمول المعروضة للبيع في ساحة المشرحة، لكن كانت حصص الدروس السريرية أكثر إثارة، لما فيها من معرفة وخبرة.
وأذكر من أساتذتي الأساتذة "مرشد الخاطر، نظمي القباني، حمدي الخياط، شوكت الشطي وحسني السبح"، ومن الصيادلة الأساتذة "عبد الوهاب القنواتي"، وكان هؤلاء الرواد ممن أشرفوا في بداية القرن الماضي على المعهد الطبي».
تقدمت الدكتورة وحيدة أثناء دراستها في السنة الأخيرة لمسابقة المقيمين ونجحت فيها، مما خولها للعمل في قاعات المرضى وغرف الإسعاف في مشفى يستقبل حالات الطوارئ الوافدة من مدينة دمشق بأكملها، تخرجت من كلية الطب في دمشق عام 1949 تحمل شهادة الدكتوراه في الطب، وكانت قد ترددت خلال الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948 على مستشفى المزة العسكري لمعالجة الجرحى الوافدين إليه؛ وتصادف وجودها مع إعلان قيادة الجيش العربي عن مسابقة لقبول أطباء عسكريين، فتقدمت لهذه المسابقة وعُينَت بوظيفة طبيبة برتبة ملازم أول في الجيش العربي السوري لتكون الثانية بين بنات جنسها التي تقتحم هذا المجال بعد المناضلة "نازك العابد"، وكان ذلك عام1950.
أوُفدت في العام التالي من قبل قيادة الجيش إلى فرنسا للتخصص في طب الأطفال، إلا أنها لم تكن طبيبة عادية بل كانت طالبة استثنائية طموحة تابعت دروس السريريات في مشافي الأطفال الجامعية والعسكرية بشغف، وتشبّعت بالديمقراطية العلمية الصحيحة من خلال مراقبتها لمحيطها الذي تعايشت معه، ونقلته إلى بلادها بعد عودتها من الإيفاد.
حصلت الدكتورة "العظمة" على شهادة اختصاص في طب الأطفال من جامعة باريس و في مرحلة لاحقة حصلت على شهادة اختصاص في طب الأطفال الاجتماعي من المركز الدولي للطفولة في باريس، وعملت بعد عودتها من فرنسا في مستوصفات وزارة الدفاع السورية، كرئيسة أطباء وطبيبة أطفال، لتقول عن ذلك:
«أتاحت لي ثلاثين عاماً من العمل فحص مئات الألوف من الأطفال والتعرف على مشاكلهم، ومنهم من يتذكرني حتى اليوم بمزيد من الحب والمودة.
كذلك مارست العمل النقابي، وتم انتخابي عضواً لمرات عدة لنقابة الأطباء السورية، كذلك أسهمت في تأسيس جمعية أطباء الأطفال السورية، وشغلت منصب أمانة السر فيها لعدد من الدورات، كذلك كانت عضو في هيئة تحرير المجلة الطبية السورية، الصادرة عن نقابة الأطباء السوريين، لمدة لاتقل عن ربع قرن، شاركت في تحرير مجلة الطبيب، الصادرة في باريس باللغة العربية لخمس سنوات».
أسهمت الدكتورة "وحيدة العظمة" بتأسيس جمعية تنظيم الأسرة التي أعلن عنها عام 1974، شغلت عضويتها، كمتطوعة لمدة تقارب الخمس والعشرين عاماً، وتم انتخابها عضواً في اللجنة التنفيذية لإقليم العالم العربي في الاتحاد الدولي لتنظيم الأسرة.
في إطار المهام التي عهدت إليها قامت بترجمة بعض الكتب التثقيفية من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية، كما قامت بنشر عدد كبير من الأبحاث حول موضوعات صحية تهم الأسرة، كذلك ترجمة مواضيع ذات صلة غير مباشرة بتنظيم الأسرة منها الانفجار السكاني في العالم، التربية السكانية، ألفت كتب عدة حول الأمومة والطفولة وصحة الأسرة بتكليف من مديرية محو الأمية في وزارة الثقافة، استهدف المشروع شريحة اجتماعية تحتاج بإلحاح إلى التوعية حول هذه المواضيع. حيث حاولت من خلال هذه المؤلفات إعطاء المعلومة الطبية الصحيحة بإسلوب بسيط شيق.
تقدمت عام 2000 بطلب إحالتها على التقاعد من فرع دمشق في نقابة الأطباء السورية، بعد أن أغلقت عيادتها الخاصة التي استقبلت فيها مئات الألوف من الأطفال وعالجت فيها الخدج.
كرمت من قبل السيدة الأولى في عام /2003/ ضمن من كرموا لتفانيهم في خدمة الوطن والأسرة، بمناسبة التكريم تقول الدكتورة "وحيدة": «لا أعتبر التكريم شخصياً وإنما هو رمز لتكريم أجيال من نساء كسرن قيوداً كثيرة وتمردن على عادات وتقاليد موروثة، في مجتمع ذكوري راكد. من خلال المشاركة بالحياة العامة مع المحافظة على حرمة الأسرة، أنا فرحة لازدياد عدد المتعلمات ودخول المرأة مجالات عدة وبلوغها مناصب إدارية مهمة ومشاركتها في الحياة السياسية في الدولة».
تزوجت الدكتورة "وحيدة" في عام /1953/ من أحد زملائها الأطباء وسافرت معه إلى المملكة العربية السعودية وبقيت هناك لمدة عام ونصف تعمل كطبيبة رافقت زوجها لحين مرضه المفاجئ ووفاته عام /1956/، فعادت إلى دمشق وهي تحمل في أحشائها طفل، هو ابنها الوحيد وهو يعمل كطبيب في الولايات المتحدة الأمريكية.
الدكتورة "أم الخير العظم" طبيبة أطفال وزميلة الدكتورة "وحيدة العظمة" خلال مسيرتها الطويلة تحدثت عنها بالقول: «من يراجع السيرة الطويلة للدكتورة وحيدة العظمة يعرف مدى إصرارها وتفانيها في عملها ووفائها للأشياء التي تؤمن بها، وفي الحقيقة أني أستطيع أن أطلق عليها لقب "المرأة الحديدة"».