يشكل التراث السوري بشقيه المادي واللامادي ركناً مهماً ضمن منظومة التراث العالمي، ويُعدّ عاملاً أساسياً في تعزيز الهوية الثقافية للشعب السوري التي يعتز بها ويعمل جاهداً للحفاظ عليها كالعادات والتقاليد والموروثات والآثار وغيرها، والتي طالت الحرب بعض جوانبها لذلك كان لا بد من أن تنطلق المبادرات للحفاظ على هوية التراث السوري في محاولة للملمة جراح الحرب.

التاريخ السوري

في مبادرة شخصية يتحدث الشاب "ميار رنة" من مدينة إدلب وهو الحاصل على شهادة البكالوريوس في المحاسبة وشهادة الماجستير في إدارة الأعمال عن بداية توثيقه المأكولات العربية بشكل عام وليس فقط السورية، ويقول: "بدأت الفكرة في عام 2020 عندما تعمقت في دراسة تاريخ المأكولات واطلعت على العديد من الكتب العباسية والمملوكية التي تتناول طبيعة الأكل في تلك العصور، فقررت الدخول في هذا المجال بسبب اللبس الكبير حوله ولرغبتي في فهم طبيعة غذائنا وكيف كان طعام أجدادنا، فبدأت الفكرة.

وكان للدكتور "محمد المصري" دور كبير في إقناعي بتوثيق المأكولات السورية، وبدلاً من أن تكون الصفحة مخصصة للطعام العربي فقط، قررت توسيع نطاقها لتصبح صفحة توثيق تراث سورية بالكامل، مع التركيز على التراث اللامادي كالطعام والأزياء والأغاني، وخاصة في ظل تداعيات فترة الحرب على سورية والتي استهدفت الجوانب الثقافية والتراثية لبلدنا".

الشاب ميار رنة صاحب مبادرة توثيق التراث السوري

مبادرة فردية

الدكتورة هبا نصر متخصصة بالتسويق الإعلامي

يعمل" ميار" بشكل مستقل عبر الإنترنت، وهو يركز على كتابة منشورات الصفحة وتصميمها بمعدل 4 إلى 5 منشورات يومياً دون انقطاع، عبر البحث في المصادر القديمة مثل كتاب "الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب" لابن العديم الحلبي، وكتاب الطبيخ لابن سيار.

ويشير إلى أنه حاول التواصل مع وزارة الثقافة السورية عدة مرات، ولكن لم يتلقَ أي رد منهم وهو يسعى للحصول على دعم مادي حكومي وشعبي أو من رجال أعمال لاستمرار توثيق تراثنا السوري.

الباحث في التراث الدكتور محمود السيد

ويضيف: "هدفي الأساسي هو زيادة وعي الناس بأهمية تراثنا السوري اللامادي؛ لأنه لا يقل أهمية عن الآثار المادية، وأدعو جميع السوريين للعمل معاً لدعم توثيق التراث والمطبخ السوري بكل تنوعه تحت اسم "سورية"، لنظهر للعالم وحدة ثقافتنا وغناها".

توثيق الطعام

تمكن الشاب من توثيق العديد من الأطباق السورية لإضافتها إلى موقع TasteAtlas، حيث ارتفع عدد الأطباق السورية الموثقة على الموقع من 31 طبقاً إلى 55 طبقاً، منها 24 طبقاً وثقها بجهود شخصية، مضيفاً: إن هذا الإنجاز يعكس مدى التزامنا بالحفاظ على تراثنا الغذائي السوري وإبراز أصالته على الصعيد الدولي.

ويضيف ميار: "سأعمل على إرسال المزيد من المصادر لتوثيق الأطباق الـ 36 التي لم يتم توثيقها بعد، فهي حق لنا ولتراثنا ومطبخنا السوري، و سأسعى أيضًاً لإضافة الأطباق السورية التي لم تُدرج بعد في الموقع، حيث إن هدفي النهائي أن أرى أكثر من 200 طبق سوري مُوثّق في هذا الموقع ومن جميع المحافظات السورية، وقررت إضافة فقرة يومية لتقييم الأطباق السورية على موقع TasteAtlas بهدف المساهمة في رفع تقييم المطبخ السوري عالمياً.

ويواصل الشاب عمله بكل جد لمتابعة كافة المواقع والصفحات والبرامج ذات الصلة لفضح التعديات على تراثنا السوري، ومن هذه الأمثلة يشير إلى أنه في أحد البرامج تم ذكر الورد الطائفي وهو الورد الدمشقي Rosa Damascena ينسبونه للطائف، كما صادف مقطعاً لشيف عراقية مقيمة في الأردن، تقوم بتحضير الطعام السوري من دون الإشارة إلى أنه طبق سوري، فيظهر وكأنه عراقي ويؤكد أن هناك إستراتيجية متبعة من قِبل شيف أردنية حيث تأخذ الأطباق السورية وتقوم بتعديل أسمائها بحجة تطويرها وكالعادة لم تذكر اسم سورية.

ولا يقتصر عمل الشاب على الطعام حيث قام بإنشاء قسم أسماه "توثيق سرقة الأزياء السورية" وعنه يقول: "اكتشفت إحدى الصفحات تنشر الأزياء السورية على أنها أزياء لدولة أخرى ويظهر في الصور زي القندورة السورية الذي يعود أصله إلى منطقة سراقب في ريف إدلب، كما وصلني مقاطع تظهر الهامستر السوري "Syrian Hamster"، المعروف أيضًا باسم الهامستر الذهبي علمياً (Mesocricetus auratus)، وهو حيوان صغير أصله من ريف حلب، وبسبب الاحتلال الفرنسي لسورية انتشر الهامستر السوري للأسف في جميع أنحاء العالم ونقل إلى أمريكا في عام 1930 حيث ازدهر كحيوان أليف"،وأيضاً وثقت محاولات لنسب صابون الغار السوري إلى دول أخرى".

التوثيق الإلكتروني

الدكتورة "هبا نصر" متخصصة بالتسويق الإعلامي تشدد في بداية حديثها على ضرورة الاهتمام بالتراث، وتوحيد جهود المؤسسات ذات الصلة وإشراك المجتمع الأهلي في تخطيط وتنفيذ مشاريع إعادة إحياء التراث المادي واللامادي، وزيادة البرامج التوعوية بأهمية الحفاظ على التراث ونشر مضمونه على وسائل التواصل.

وتلفت "نصر" إلى أهمية مواكبة التطور التكنولوجي وحفظ التراث الثقافي إلكترونياً عبر تسجيله وتوثيقه بالمعلومات والصور و إنشاء سجل وطني للمواقع الأثرية والتاريخية والعادات والتقاليد التراثية في سورية، مضيفة: إنه خلال فترة الحرب على سورية تعرض التراث السوري للسرقة، ولعبت الكيانات وبعض الناشطين في مجالات التراث اللامادي ومنهم مجموعة توثيق التراث السوري دوراً هاماً في حفظ وصون التراث وحمايته.

حفظ الإرث الثقافي

بدورها توضح الصحفية "رشا محفوض" رئيس القسم الثقافي بوكالة "سانا" أن سورية تعتبر من أوائل دول العالم التي صدقت على الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحفظ الإرث الثقافي، ومنها اتفاقية ٢٠٠٣ لصون التراث الثقافي اللامادي ومكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية عام ١٩٧٠، والتي تم إقرارها تحت مظلة “اليونسكو” بالإضافة إلى مصادقتها لجملة من اتفاقيات القانون الدولي الإنساني كاتفاقية لاهاي لعام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حال النزاع المسلح واتفاقية باريس عام 1970 بشأن التدابير الواجب اتخاذها لمنع استيراد وتصدير ونقل الممتلكات الثقافية بطرق غير مشروعة واتفاقية باريس الثانية عام 1972 لحماية التراث الثقافي والطبيعي.

وتؤكد "محفوض" ضرورة اتخاذ جملة من الإجراءات لحماية التراث الثقافي السوري من ناحية تشريع القوانين المتخصصة وتنفيذ الاتفاقيات الدولية من قبل الدول الأطراف في هذه الاتفاقيات لحماية وصون الإرث الثقافي الإنساني العالمي واتخاذ إجراءات الحماية وتوثيق الانتهاكات وإدخال مفهوم حماية التراث العالمي في خطة وزارة التربية ووزارة التعليم العالي بشكل أوسع.

ضرورة عاجلة

الباحث في التراث الدكتور "محمود السيد" يبين ان التراث الثقافي اللامادي في المجتمع السوري يتضمن عناوين مختلفة، كالممارسات والطقوس الاجتماعية والطعام والفنون والموسيقا والمهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون والأزياء الشعبية.

ويعتبر الدكتور "السيد" أن أهمية التراث الثقافي تتمثل في ارتباطه بماضي الإنسان والواقع الذي يعيشه وبحاضره ومستقبله، ويؤدّي فقدانه وزواله إلى زوال الهويّة وفقدان الذاكرة.

ويشدد الباحث على أن عملية صيانة وترميم وإعادة إحياء التراث السوري في ظل الظروف الراهنة، تشكل ضرورة لا ينبغي تأجيلها نظراً للدور المهم الذي يلعبه العامل الثقافي في إعادة البناء الاجتماعي وإعادة الشعور بالهوية، ومساهمته في تعزيز ثقافة المحبة والسلام لذلك يعتبر إحياء التراث الثقافي ضرورة تستوجب العمل عليها في المراحل المبكرة لإعادة الإعمار بعد الحرب، والتي استهدفت في جزء كبير منها التراث العريق لشعبنا.