- الطمأنينة! هل هي وحدها التي كانت تعنيه؟ ولماذا؟ ما الذي كان يخشاه من هذا الأمر في مدينة حلب، دون سواها من جميع الأماكن؟ مادامت «الذكريات التي سوف تبقى» هي التي تستأثر الآن باهتمامه، وهو يتأهب للرحيل، فلا بد من استعادة الفضيحة - كما يدعوها في حديثه الداخلي - لا لأنها كانت أول امتحان، في حياته العامة فحسب، أثبت فيه أنه قادر على التستر والمراءاة، بل لأنها أيضاً، كانت البداية والنهاية، في تحديد الملامح الأساسية، لشخصيته الغريبة، بداية الحياة المستهترة التي درج عليها فيما بعد، واكتشف من خلالها، أنه من الذين وجدوا على الأرض، من أجل هدف واحد، هو إرضاء نزوات الجسد، ونهاية الأحلام النبيلة، الواسعة، التي كانت تزين له طوال حياته الجامعية، بأن له دوراً مرموقاً، لا يخلو من العظمة. يستطيع أن يؤديه في حياة المجتمع ومصائر الآخرين. أما صفة «الغرابة» فهو الذي أطلقها على شخصيته منذ أن تبين - اثر هذا الحادث الغامض بالطبع - أنه يتفرد باكتشاف حقيقته منذ اللحظة الأولى، واختيار السلوك الذي ينبغي أن يكون عليه، طوال حياته.
- إذن هي سلمى؟! اسم ثالث، لا بد ن أن يضاف للتعريف بها، كما يجب؛ وهناك أيضاً مظهرها الخارجي الجديد. أي الهيئة التي جاءت بها هذا المساء. والغالب أنها تحرص عليها في كل موعد من هذا القبيل.الثوب الريفي المنسدل حتى القدمين، تارة يكون معرّقاً، وتارة مقلّم الحواشي، ولكنه زاهي الألوان في كل حين، تُتوجه عصابة تميل إلى البياض، تضم الجبهة والشعر في طيات محكمة، غير أنها تنحسر عند العنق، على نحو يدع النحر عارياً، متألق السمرة، حتى المنحدر الصغير من تباعد النهدين، حيث يلتمع فص من العقيق في سلسلة ذهبية دقيقة، هي كل ما يبدو في زينة الفتاة من الحلي، إلا إذا اعتبرت الحلقة المعدنية المزركشة بألوانها الفضية في الحذاء الصغير، من مظاهر الزينة، رغم أنه - على أناقته العصرية - أقرب إلى ما تلبسه المراهقات، اللواتي يخشين التعثر في الكعب العالي. مثل هذه الخشية كانت تلوح في كل تصرفات الفتاة: حركات يديها وطريقتها في الجلوس والحديث، حتى النظرة والتفاتة الرأس، والابتسامة، كان ظل الحياء والخجل العفوي يهيمن عليها جميعاً.
هذا ما ينبغي أن يقال الآن، لكي يكون هناك ما يسوغ للمعلم «العاشق» أن يسطر في يومياته «العاطفية» - وهي الآن بين يديها - هذه الانطباعات «النظيفة» عن حبه الصادق :
- شيء من التقاليد الأصيلة في هذا الشارع العريق، في جميع الشوارع الكبرى يمر الإنسان ضائعاً في الزحام، لا يعنيه أن يراه الآخرون، أو يهتموا به إلا في «الصالحية»؛ الجميع هنا يشعرون بأنهم مراقبون، أو ينبغي أن يكونوا تحت الرقابة. نوع من حب الظهور، أو توكيد الذات على حد التعبير الدارج، حتى الذين أتيحت لهم شهرة مريبة، كالمتشرد الذي يوقف المارة في توبة عاصفة من الوعظ الديني، وهيئته تعيد إلى الأذهان صورة متصوف تقليدي، لا يشك بعدوى الإيمان، حين يكون هناك من يجرؤ على مجابهة المعاصي بكلمات الله ووعده الحق؛... في الشارع نماذج شتى من هذا الطراز، تعلن رفض الانسياق مع القطيع... منها المراهق الذي يحرص على المظهر النابي في الشعر والثياب والكلام... والمتسوّل الذي لا يعترف بالتسوّل، فيوكّل نفسه برعاية القطط والكلاب، والأفاعي البيض، في بعض الأحيان، أو يبيع الأشياء الصغيرة في إلحاح، لا يخلو من القسر غالباً، يعترض سبيل الآخرين دون غاية، إلا أن يعترف بوقاحته الآخرون. إنه أيضاً يريد التفرد بشيء ما، يجعله من أبناء الشارع البارزين.
- أصبحت كل ساعات اليوم، فترات انتظار ممتع من أجل المرأة، وأصبحت هي أيضاً تتراءى له في كل النساء، كلهن يبتسمن في تحفظ ويتحدثن في خفر، ويصرخن أو يتهامسن، بأصوات متباينة الإيقاع، تعبر عن شيء من الشخصية المتميزة التي تخفي أضعاف ما تعلن، وهو ما تنم عنه الثياب والعطور، وتصفيف الشعر وحركات اليدين، وطريقة المشي والتفات العينين. أما هي فإنها الكائن «النسائي» الوحيد، الذي لا يتكلم إلا قليلاً ولا يرى إلا عارياً، مستسلما، راسخاً في غوايته كالبحر الهادئ، أو السماء الصاحية، أو الاخضرار الدائم، العريق للصنوبر أو الزيتون. شيء من سرمدية البقاء يوجد أبداً هناك، من أجل المتعة الأزلية ولم تغفل المرأة عما آل إليه توفيق في هذه العلاقة.
وليس غريباً أن يكون مثل هذا «الوفاء» غير المتوقع، قد استهواها في شخصية الشاب، فجعلت تعبر له - في حدود واقعها المهني - عن شيء مماثل.
- الحكمة؟ بل الحكمة البليغة، أن واحداً على الأقل في كل سلالة، استطاع أن يتحدّى ما قُدّرَ على الجميع، أن يتدخل فعلاً ولو بالانحراف والرذيلة والشر، في تبديل التكوين الجسدي، كما صنعته الطبيعة أو أراده الله. فما هي مهمتنا كلها مثلاً، نحن الأطباء؟. ندرس ونأخذ بكل أسباب العلم في معرفة الجسم وتشريحه ووظائفه العضوية وأمراضه التي لا تنتهي، ولا عمل لنا إلا أن نُداري الخلل الطارئ، من أجل أن يستمر ما هو كائن، أن تبقى البنية الجسدية، عند هذا أو ذاك، مريضة أو سليمة، عدة سنوات أُخَرْ... أقصد البنية كما هي، مثلما توضع بين أيدينا.. هل خطر لك يوماً أن عمل الطب بكل اختصاصاته ومعجزاته في شفاء المرضى، وتنبؤاته الوقائية، ومكافحته اليومية الضارية لكل نذالة الموت... يستطيع ذات يوم، أن يمنح جسداً إنسانياً واحداً، حياة دون ألم؟..
|