جماليات الوصف والمكان قراءة في رواية "مدينة الله"
جمال نوري
يستهل القاص والروائي "حسن حميد" روايته "مدينة الله" بإشارة لافتة لا بدّ من قراءتها من أجل معرفة مغاليق هذه الرسائل التي كتبها "فلاديمير" إلى أستاذه "إيفان" في جامعة "سان بطرسبورغ" ، والإشارة نفسها تنطوي على توضيح أو إضاءة للتقانة أو الحيلة السردية التي اعتمدها الروائي في بناء السرد وتواصله مع الحكاية المركزية في جوهر المكان ، حيث يذكر "ناشر الرسائل" بأنه فوجىء بزيارة "وديعة عميخاي" وهي تسلّمه حزمة من الرسائل المحضورة، كانت أوقفتها حين كانت تعمل في مركز البريد .
فها هي ذي تتخلى عن ذنب قاسٍ من ذنوبها بعد أن افترسها السرطان ولأنها واثقة تمام الثقة من صحة الكثير مما قيل ضمن هذه الرسائل ، إلا أنها تخشى أن يحرقها أحد من ذويها أو معارفها بعد رحيلها ، ولم تجد أصلح من "ناشر الرسائل" الذي يعمل في مكتبة الشرق لإيصال هذه الرسائل إلى صاحبها الشرعي .
ويتبين من حديثها أن أسلوب الرسائل الأدبي الرائع وولعها باللغة العربية جعلها تحتفظ بهذه الرسائل لأكثر من عشرة أعوام، لتضعها أخيراً بين يدي ناشر الرسائل الذي تجشم عناء البحث عن شخصيات هذه الرواية، لكنه أخفق في الوصول إلى أي واحد من أولئك ـ عدا "سيلفا" التي انتحرت ليتمكن من إيجاد وسيلة لإيصالها ، مما اضطر إلى نشرها كاملة من دون حذف أو تصحيح .
وربما استطاع أن يعرف بعد لأي أن "إيفان" قد ترك الجامعة بحثاً عن "فلاديمير" الذي اصطلى بنار الحقيقة وأودع في مجاهيل السجون التي غيّبته إلى الأبد، ولعلّ الملحوظات العديدة التي كان يختم بها رسائله وهو يلح ويتوسل "إيفان" أن يكتب له أي شيء يمكن قد يسعفه في متاهته ، كانت علامة أخرى على الرغبة في إدراك الحقيقة .
ولعلّ "إيفان" أيضاً أدرك أن هذا الجفاء والانقطاع كان بسبب موضوعي أو عن قصدية تهدف إلى أن يكون في المكان " القدس" الذي سيكشف فيه وعبره عن طبقات المعرفة ومستوياتها وظلالها وجيوبها عبر المشاهدة والملامسة والمعاينة، التي أضاءت له جوانب متعددة من جوهر المكان وحساسيته وفضائه العلني والسرّي والموارب .
في الرسائل الست الأخيرة التي أرسلها "فلاديمير" من السجن يختم الرسالة السادسة ضمن الملحوظات التي دأب وحرص على تذييل كل الرسائل بها ، وهي بلا أدنى شك تفصح عن دلالات جلية تصف المتغيرات السايكولوجية والمعرفية التي عصفت بفلاديمير، وهو يدرك بمجسّاته الإنسانية هول التجربة وفجائعيتها في هذا الوطن الجريح ، وفي آخر ملحوظة يطالب عكس كل ملحوظاته السابقة بأن "أرجوك .. لا تكتب إليّ .. فعناوين السجن ليست عناوين" .
لقد حضر "فلاديمير" زوج "رشيدة مراد" الفلسطينية التي توفيت في حادث سيارة قبل ستة أعوام، ولم يكن "فلاديمير" مقتنعاً تماماً بالتفاصيل التي كانت ترويها له وحجم الظلم وبشاعة الحياة في مفاصلها المؤلمة ، ويوضح "فلاديمير" ذلك في الرسالة الأخيرة معترفاً لـ "أبو العبد" صاحب مقهى في "قلندية" :
معرفتي ب"رشيدة" هي التي عرفتني بفلسطين، معها قرات التاريخ الفلسطيني، ومعها عرفت الجغرافية الفلسطينية، ومعها وعيت الألم والظلم اللذين وقعا على الشعب الفلسطيني .
ومع أنه يقول ذلك مدركاً أبعاد كلامه إلا أنه كان يتصوّر في البدء أن في ذلك الكثير من المبالغة، وعند المشاهدة العيانية الأولى "مرحلة الدهشة والغواية" تكون المعرفة هلامية إيحائية ، تنطوي على الكثير من الوهم بإزاء تلك اللغة الشعرية العالية التي لا تتوقف عن الوصف الدقيق للأشياء ، للأماكن المقدسة ، للطقوس الاحتفالية الكثيرة للمسلمين والمسيحيين واليهود، ومشاهدة القدس بطبيعتها كفيلة بأن تبذر في أعماقه أشياء كثيرة بوسعها إحداث تحولات خطيرة في رؤيته للأشياء :
أعترف لك .. أنني وكلما خرجت كي أرى "القدس"، أشعر بفرط نشاط في جسدي ، ورقص في روحي ، ولهفة يموج بها قلبي ، لكان المدينة سحرتني ، فأنا أخرج إليها مثل عاشق يخرج للقاء عشيقته .
وتأخذ "فلاديمير" للوهلة الأولى هالة سحر الأجواء ومتاهة الفضاء الذي لا يكتشف طبقاته بسهولة، ولشدّة هوسه بالمكان يسأل الدليل "فرج": «هل هذه المدينة مسحورة؟ قال: لا . قلت: هل هي تدور» .
ثم يردف قائلا :
قلت لماذا إذاً أراها في كل مرة وكأنني أراها للمرة الأولى ، قال: لأنها مقدسة ، فكل ما يقال عنها يظلّ جديداً كانه لم يقل من قبل، وكل رؤية لها تظل جديدة كأنها لم تكن من قبل .. قلت: ومن يغيرها، يا فرج ؟!
قال : يد الله ، الناس ، النهارات ، والقلوب .
ويسترسل الدليل "فرج الفلسطيني" واصفاً القدس حيث يقول: "إنها مثل النساء الجميلات كل إماله لها جدّة" .
يمكن أن تقرأ المكان بوصفه فضاءً ومسرحاً منفتحاً للفعاليات الإنسانية ، فيصبح على وفق هذا التصور الأولي جزءاً من صيرورة الحياة لأي مجتمع مع تقادم الأزمنة، ولعلّ المعرفة الأولية لم تكشف تلك المستويات المختبئة في أعطافه ومتاهاته وظلاله ، إلا أن اقتراب "فلاديمير" من الشخصيات الكثيرة التي عايشها ولامسها وتفاعل مع معاناتها وهمومها وشجونها ، قادته إلى معرفة أشياء كثيرة لفكّ بعض رموزها وتحليل شفراتها أوصلته بالنتيجة إلى السجن ، بعد أن استقرأ بمجساته الإنسانية كارثية الحياة والظلم الذي يقع على الفلسطيني من البغال والبغّالة، الذين يتربصون بكل نبض حيّ للحياة وكل لحظة فرح أو همسة بهجة في الشوارع والبيوت والمدينة .
وقد يستغرق كاتب الرسائل في متاهته وحيرته، تلك التي لا يتوقف في بيانها وكشفها بإزاء "إيفان": "صدقني إنني في حيرة المغلوب على أمره، فأنا لا أدري ماذا أكتب إليك، أهي الحقيقة أم الخيال، فأنا لا أصدّق بأن ما سمعته قد حدث، وأن ما رأيته أمام عيني قد حدث بالفعل أيضاً" .
وتتمخض التجربة الطويلة مع المكان ومتغيراته عن معرفة أكيدة تنطوي على نوع من الضبابية والغموض :
هنا، وفي هذه البلاد، وفي هذه الظروف .. نرى الواقعي والعجائبي والسوريالي والملائكي والشيطاني كائنات من لحم ودم تمشي معك في الشارع، وتجالسك في المقاهي والمطاعم، وهنا أيضاً .. نرى الظلم، والأذى، والخوف، والدم، والقتل ، والآهات ، والصرخات والاستغاثات ، وقلة الحيلة ، والصبر..كائنات تجول في المكان مثلما يجول الهواء في الفضاء الحب .
ولعلّ علاقة "فلاديمير" مع "الحوذي جو" و"أبو العبد" و"سيلفا" و"عارف السهيل" و"أم هارون" والدليل "فرج" وغيرهم ، تفتح نوافذ ثرة تغني وتعزز قناعته في النهاية في أنه أسير مدينة ساحرة واستثنائية تصلح أن تكون مدينة الله .
لقد وفق الروائي "حسن حميد" في أن يكون محايداً وحذراً في رسم الشخصيات من وجهة نظر الراوي الذي هو زائر روسي يجيد العربية ويكتب بها، أما عن اللغة الشعرية التي اتسمت بها الرواية فيجدها رشاد أبو شاور في قراءته على النحو الآتي "الرواية مكتوبة بلغة شعرية رفيعة تليق بالقدس، بحيث تتجلّى وتتجسّد اللغة الشعرية التي تتألق عند جدرانها وفي حاراتها التي تفوح منها رائحة التاريخ الزاخر بالحزن، والتراجيديا الإنسانية، تراجيديا عذاب مدينة وشعب".
ويتوقف "طلعت سقيرق" واصفاً الرسائل النتي كتبها "فلاديمير" بقوله "حركة فلاديمير في رسائله القصيرة التي تصل إلى حدّ التشفير أو القصيدة الشعرية، تنتقل من مكان إلى آخر لتقول القدس بكل ما فيها" .
ويؤكّد ما ذهب إليه "طلعت سقيرق" إلى أهمية المكان وتنوّعه وفرادته بوصفه منهلاً ثراً للمعرفة أضاف الكثير إلى "فلاديمير" ، وهو يداري اضطرابه وارتباكه أمام كل هذا السحر الذي يلفّ "القدس" .
ولعلّ علاقته الأولى بعد وفاة زوجته "رشيدة" مع السجانة "سيلفا" كشفت عن هول وتركيبة وتعقيد وإشكالية الشخصية اليهودية بكل متناقضاتها ، حيث تمتهن أبشع أدوارها في السجن من جهة، وتتمثّل من جهة أخرى رمزاً للأنوثة الطاغية في علاقتها مع "فلاديمير"، إذ تعترف "سيلفا" وهي تلامس "فلاديمير" قائلة : "أرجوك اقترب، عانقني كي أدعوها أن تحميك وتبقيك لي وحدي، فقد أعادتني أيامي معك إلى إنسانيتي، لا شيء مثل الحب يعيد المرء إلى إنسانيته، وينسى ما اقترفقت يداه" .
ولا يستطيع "فلاديمير" وهو في مرحلة الكشف التي خاضها في "القدس" أن يصدق أن تكون "سيلفا" سجانة تقترف الأعاجيب بحق السجناء ، كما روى له الحوذي "جو" والمناضل السياسي اليساري "عارف الياسين" الذي أمضى ثلاثين عاماً في سجون "البغّالة" ، حيث تتمرأى له صورة إشكالية معقّدة في لجّة التحامه بالجسد الأنثوي النافر :
ها أنذا أراها تخلع الثوب، فتبدو القرى وتبدو البساتين .. وقد ظللتها الغيوم ، ها هي ذي تدنو ، فتبدو الدروب ، وها هي ذي يدها تأخذ بيدي .. فأحسّ بالمروج المعشبة ، ندى بلله العطش العميم .. ها هي ذي دنيا ألوان تجول في غرفتي، وأنا حولها أدور، وها هي ذي روحي تحوّم في فضائي مثل فراشة خفت كي يمرّ بها الهواء .
وتتواصل "سيلفا" في اعترافاتها المضنية الشائكة كاشفة عن بشاعة السجن والقتل والظلم والعذاب المتواصل: "يغتصبن بالعصي الطويلة، ويا للصرخات الوحشية ويا للألم الذي يندفع كالثيران ".
هكذا تتضافر صور الأمكنة وطبقاتها وأسرارها على اختلاف مستوياتها ، وكذلك تنوع الشخصيات وتعددها في إضاءة المشهد الذي أصبح أكثر وضوحاً، فالمقهى في قلندية وأبو العبد واعترافات عارف السهيل ورحلات فلاديمير الاستكشافية للمخيمات والمستوطنات وشيطنة أم هارون وتجسسها على كل حركاته وسكناته ، واعترافات ليلي و"سيلفا" ، وحالة الفزع والخوف التي تتلبس البغالة وهم يقمعون الناس ويصادرون كل فرصة صغيرة للفرح والتألق والتوهج، وقراءته لرواية يزهار سميلانسكي الموسومة بـ "خربة فزعة"التي يبرر فيها القتل والحرق ويعدهما بطولة ما بعدها بطولة، ويصفها أبو العبد في إحدى محاوراته الحميمة مع فلاديمير بقوله الفلسفي: "إنهم يولدون مع الخوف" .
إن رواية "مدينة الله" تمثل مرحلة مهمة في كتابة رواية عربية فاعلة تشتغل بتقاناتها الفنية العالية على الإنسان والأرض والمصير والهوية ، وهي تكشف عن آفاق جديدة لفهم الآخر لقضية شعب قاتل وما يزال من أجل تحرير بلده وتطهيره من دنس الغزاة وعبثهم وعنجهيتهم واستبدادهم وإرهابهم .
لقد تمكّن "حسن حميد" بحذق الروائي المجيد والخبير أن يطوّع الشعر والسحر في كلماته ورؤياته وحياديته، في اقتحام موضوع غاية في الخطورة والحساسية ولاسيما ما يتعلّق بشخصية "فلاديمير"، والحذر الذي وضعه "حسن حميد" في حسابه وهو يحاول أن يضع شخصية روائية مقنعة بسلوكها وإحساسها وأحلامها ووجهة نظرها ، ولقد أفلح تماماً في بناء هذه الشخصية بكلّ أبعادها الإنسانية والفكرية والثقافية .
رواية "مدينة الله" د. "حسن حميد"
يحلق فوق القدس..... ويرسم طريقاً للشمس
محمد عادل
"مدينة الله" رواية تضاف إلى روايات سابقة أصدرها د. "حسن حميد"، والى مجاميع قصصية كثيرة، ودراسات أدبية عدة.
تقع الرواية في "450 صفحة" وهي من منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت، عمان، 2009، وغلافها للفنان "زهير أبو شايب".
"من أين يأتون بالصفاء والمودة. إنها أزهار الصحراء... كيمياء الفلسطينيين، فرحهم الخاص الذي يستنبتونه من المآسي... أحياناً تقوم الخيول بأعمال لا تليق بها، وتخضع لأوامر ظالمة لا تعرف طبيعتها، ومع ذلك تظل خيولاً... حال الفلسطينيين كحال الخيول!".
"منذ متى أقيم هذا المخيم.... هذا شاهد على اللا منطق الذي تعيشه الآن.... عمر هذا المخيم يساوي عمر "الدولة الإسرائيلية"... فيه أهل القرى والبلدات والمدن... الذين هاجروا من بيوتهم وأراضيهم عام 1948".
رواية "مدينة الله" تتحدث بأسلوب مشوق، ومذهل عن جماليات المدن المقدسة ومكانتها عبر العصور... وعن قسوة الزمان.... والصبر الذي ليس له حدود في تلك المدن... عن حجارة سوداء مرصوفة منذ آلاف السنين... تحكي عن زمن مضى... وزمن سيأتي ليقول للناس... لن يبقى الغزاة!
القبور شاهدة على جرائم عصابات "الدولة الإسرائيلية"! والقرى المدمرة والمدن شاهدة على مجازر هذه الدولة... والحواجز المنتشرة كالأفاعي شاهدة على الإرهاب والتنكيل والقتل المنظم!
الدوريات "الإسرائيلية"... مظهر من مظاهر الإرهاب والاحتلال والقتل الذي لم يتوقف منذ بدايات القرن الماضي... المعابر... الجدار... الأنفاق ... السواتر الترابية تجريف الأراضي قطع الأشجار... المداهمات النهارية.... والليلية!
القوة لا تدوم... والضعف لا يدوم؟
الخوف... والأمن... والقتل... لن يجلب إلا الخوف!
الصبر لا أحد يعرفه غير الفلسطيني....
صبر آخر... صبر لا يشبه صبر الآخرين... لأن الفلسطيني له أعداء لا يشبهون أحداً . أعداء من شدة الخوف والرعب من أن ينهزموا... يمارسوا قمعاً وقتلاً لا حدود له..... للذي لم يرَ القدس... سيأخذه حسن إلى حواريها... أزقتها... أسواقها... هضابها... جبالها... أوديتها ... بيوتها مقاهيها... زواياها مساجدها.. كنائسها.... ساحاتها... مطاعمها.... حجارتها الرابضة على أرضها منذ فجر التاريخ... مآذنها التي تسبح بحمد الله ولم تنس يوماً أنها أول القبلتين وآخر الحرمين... ومسرى النبي العظيم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام...
هنا القدس... هنا أول الدنيا... هنا أقرب الأمكنة إلى السماء... هنا مدينة الله... هنا باب السماء.. هنا باب العمود.. باب الخليل... باب المغاربة... باب الساهرة.. باب دمشق.... هنا بلد السيد المسيح عليه السلام.. والسيدة العذراء عليها السلام... هنا من رأى الغزاة يأتون ثم يذهبون مدحورين مهزومين.. هنا من رأى كل الحروب والدمار والخراب.. وبقيت القدس وأهلها.. وناسها.. وأحبتها... داخلها.... وخارجها انزرعوا في مدينتهم... ولم يبق من الغزاة غير ذكريات أعمالهم الملعونة... هنا القدس... شعب مكافح يؤكد لا سلام في العالم بدون أن تعود القدس لفلسطين ولأمتها العربية... ولأهلها... ويعود أهلها.
هنا القدس....
خبز ساخن مثل القمر... الزعتر.. وكل أنواع الفطائر.. كل أنواع الأجبان... كل أنواع الحلويات... كل أنواع الأعشاب... هنا الشوارع تحتضن كل الناس الذين جاؤوا للحج وللنذور وللزيارة... كل الوجوه نظراتها باتجاه شوارع وأزقة القدس العتيقة... هنا المآذن تلامس الغيم... هنا أجراس الكنائس تعانق المآذن... هنا البيوت مثل الهلال، والصليب.. هنا يصمد البشر كما لم يصمد أحد... هنا لا أحد يعرف كيف واجه الناس كل هذا القمع، والإرهاب، والتنكيل، والموت، والخراب. هنا يبنون ما تهدم... ويسكنون حول ما تهدم....
هنا المخيمات... عناوين للصمود.. والمقاومة... والمواجهة.. هنا الأحياء.. هنا الشهداء... هنا الأصوات التي صرخت في وجه الطغاة... هنا عكا، وحيفا، والناصرة، والرامة، هنا كل شبر من تراب فلسطين يتحدث.
هذه بلادنا... أرضنا.. بيوتنا.. شوارعنا... أعشابنا.. أشجارنا... مطرنا.... برقنا... ورعدنا... ورياحنا لنا... وليس للغرباء...
كل ما يقوله الغزاة مزور ولا يخضع لعلم أو منطق... فلسطين هي فلسطين... ولن تكون غير ذلك.... القدس هي القدس ولن تكون غير ذلك..... وكذلك كل المدن والقرى والبلدات الفلسطينية....
هنا القدس... الدعاء من أجل أن يخرج الغزاة لم يتوقف... والرصاص المقاوم لم يتوقف... والكفاح لم يتوقف... والصراع سيبقى ما دام الغزاة على هذه الأرض... لأنهم في يوم سيخرجون... مذعورين، مهزومين.. ليس لأن التاريخ يقول هذا، بل لأن المنطق... ولأن الأرض التي يحاولون سرقتها، وتجريفها، وتخريبها ، وكذلك الأشجار المقطوعة والمحروقة، والتي تأكلها أنياب الجرافات ترفض أيضاً وجود الغزاة، والقتلة... ولن تحنو عليهم، بل سوف تظل تلعنهم... هنا في "القدس" الذكريات ما زالت تحوم حول أصحابها، حتى الذين استشهدوا.. أو من يعيشون في المنافي.... هنا الأمكنة الوفية لأصحابها... لأهلها... للدموع التي ما زالت تغسل أزقة وشوارع، وأسواق القدس العتيقة!!
هنا في هذه الأرض أينما نظرت.... معتقلات فيها كل أنواع التعذيب... هنا أمكنة لا يوجد أقسى وأبشع منها... فيها من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ وكل الأعمار... يدخلون ولا يخرجون، هنا... في المعتقلات أضخم وأسوأ ما قدمه الغرب في فن التعذيب، والقتل، والإعدام.. وهنا أيضاً صبر لا يشبه صبر الآخرين، صمود على البلوى ، صمود على ظلم الزمان، صبر لا يتحمله بشر.. ولكن من يتحمل هذا الصبر يكون في مصاف الأولياء الصالحين، المؤمنين، الصابرين ، الرافعين أيديهم إلى السماء على ظلم لحق بالشعب الفلسطيني الذي عجز كل طغاة العالم عن فهم سبب صموده وبسالته.
يأخذنا "حسن حميد" ويحلق بنا على بساط الريح السحري الذي لم يره أحد.... لنسمع بما لم يسمع به أحد... لنسمع استغاثات الأطفال، والشيوخ، والصبايا، وأصحاب النذور، ووصايا الشهداء.... على الطرقات، في المنازل، في البيارات، في الجبال، في السهول والمروج، في الوديان نحلق فوق "فلسطين" ذبيحة ديمقراطية العالم الغربي وتقدمه... وأطماعه وجهله بالشعوب المزروعة في هذه الأرض منذ فجر التاريخ!
هنا في فلسطين.. الحسنُ باقٍ... ولن يخرج... والوفاء لهذه الأرض مزروع ما إن يقلع المحتل شجرة حتى تنبت ألف شجرة... هنا بذور الصمود والوفاء والمحبة والسلام... هنا الصدور تستقبل الرصاص... وتقاوم... ولا تساوم؟
ويحلق بنا حسن حميد فوق أشجار الصنوبر، والسرو، والخروب، والسنديان، والبلوط، والجميز، والصبار، وعرائش الدوالي وبيارات يافا... ونخيل غزة.. ومرج بني عامر. وينثر كلمات الشاعر الشهيد علي فوده فوق بحر يافا:
إني اخترتك يا وطني حباً وطواعية... إني اخترتك يا وطني سراً وعلانية... إني اخترتك يا وطني... فليتنكر لي زمني.... ما دمت ستذكرني... يا وطني الرائع، يا وطني.
هنا في هذه الأرض المباركة... قامت أكبر جرافات العالم بعمل وحشي باقتلاع آلاف من أشجار الزيتون... وزرعت مكانها بعض أشجار الأرز... وذهل "المستوطنون" بعد ربع قرن من زراعة هذه الأشجار عندما فوجئوا بفروع أشجار الزيتون تشق الأرض وتنمو وتزهر من جديد خارقة كل التوقعات لأن جذورها باقية.... باقية في هذه الأرض المباركة.
من أحب هذه الأرض وأخلص لها، وكافح من أجلها يكون قد وضع نفسه في المكان الصحيح محصناً مسيرته بقيم نبيلة عالية تمكنه من مواصلة المشوار الطويل رغم الصعاب والمخاطر، بل والمهالك... هذه الأرض خلدت القادة والشهداء العظام، وهذه الأرض هزمت كل الطغاة والمارقين، وبقيت شامخة وعالية مشرقة بهية، وهذه الأرض الطاهرة المسقية بدم ودموع الشهداء جديرة بأن ندافع عنها لتعود فلسطين إلى أمتها كما كانت حاضرة الدنيا في الأماكن المقدسة... وجمال الطبيعة الساحرة... والناس الطيبين الأوفياء المرابطين على هذه الأرض المباركة.
رواية "مدينة الله" للدكتور "حسن حميد" أول عمل أدبي يفتح أبواب القدس ، وبيت لحم ، والخليل ، و"أريحا" و"الناصرة" ... و"عكا" ، وقرى ومدن فلسطين ينقلنا معه عبر الحوارات المثيرة، والصاخبة، وعبر المواجهات بين " ألبغاله"، وأبناء الشعب الفلسطيني.
مشاهد الصمود والصبر... والدماء على الحجارة السود... اللون الأحمر... واللون الأسود... ولون الشجر... والغيم الأبيض... ورذاذ المطر يشكلون ألواناً وأشكالاً... تحكي حكاية تاريخ يقول لنا... ما زال الماضي... هو الماضي... نعيشه الآن.
|