نبيل سليمان
في عام 1982 صدر المجلد الخامس من المؤلفات الكاملة ل"صدقي إسماعيل"، وقد ظهرت في هذا المجلد لأول مرة مخطوطتان هما: "حب المرقش الأكبر" و "الحادثة".
عن الأولى والتي حملت عنواناً فرعياً هو "قصة تاريخية" ، يحدث الكاتب زوجته "عواطف الحفار إسماعيل" في رسالة لها مؤرخة في 15/5/1954.
والقصة مكتوبة إذن منذ ذلك الحين ، وقد تأخر نشرها ثمان وعشرين سنة، وبلغت اثنتين وخمسين صفحة من القطع الكبير ، فهي تترجح بين الرواية القصيرة والقصة الطويلة ، وبالأحرى فهي من "النوفيللا".
بعد سنة يكتب الكاتب لشقيقه "أدهم" أنه أنجز روايته الأولى "الله والفقر".
وقد تأخر نشر هذه الرواية حتى عام 1970.
أما "الحادثة" فلم يتوفر لي ما يشير إلى فترة كتابتها. وقد ورد في هامش الصفحة 369 من المجلد الذي ضمّ هذه الرواية ، ما تصدّر هذه الطبعة الثانية والكاملة منها ، مما يشي بأن التصدير هو لمعدي المؤلفات.
وقد أضافت "عواطف الحفار" هنا إلى هذا التصدير الأسطر الخمسة الأخيرة.
وكان "أنطون مقدسي" قد ذكر في مقدمة المجلد الثالث من المؤلفات الكاملة للكاتب الراحل والمجلد صادر عام 1979، أنه كان من مخطط الكاتب وضع ثلاثية لم يترك من جزئيها الباقيين سوى مسودة بسبعين صفحة تحمل اسم "الحادثة".
لكن اللافت هنا أن "صدقي إسماعيل" كان قد ذكر في حوار "بدر الدين عرودكي" معه أن روايته "الحادثة"جاءت في ألف صفحة ، وأنه يكتب رواية أخرى عنوانها "رحلة إلى الغرب" ! .
على أية حال ها هي رواية "الحادثة" أخيراً بين يدي القراء ، غير منقوصة.
ولعل الأوْلى أن يبدأ الحديث عنها بالإشارة إلى رواية "العصاة" التي صدرت عام 1964، وشابهت الثلاثية في تصويرها لحياة ثلاثة أجيال من أسرة حلبية ، مما يغطي ما بين نهاية القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين . بينما تبدأ رواية "الحادثة" بأربعينيات القرن العشرين ، وتمضي قدماً حتى قيام الوحدة السورية المصرية عام 1958.
تنبني رواية "العصاة" بالتوليد السردي ، وتراهن على الشخصية الروائية ، وتثقل عليها غير مرة الحوارات السياسية والحوارات الفلسفية حول الروح والجسد والدين .
ويذكر "أنطون مقدسي" في تقديمه لها ضمن المؤلفات الكاملة لكاتبها ، أن الكاتب قال له قبل وفاته بسنتين «سأعيد كتابة العصاة عندما يسعفني الوقت».
وحَسْبَ ذلك أن يكون إشارة إلى ما في "صدقي إسماعيل" من الكاتب المحنك والطموح إلى الكمال.
وربما كان التأخر في إنجاز رواية "الحادثة" ، من هذا القبيل ، فكان أن سبق الموت الكاتب.
ويبقى من المهم فيما أحسب لقراءة رواية "الحادثة" أن يشار إلى ما صورت رواية "العصاة" من شخصية "هاني المنذر" السياسي الانتهازي الذي أسس "العصبة" كرد على نكبة 1948، وكبديل للأحزاب يتدرع بالنخبوية.
وربما وشت شخصية "هاني المنذر" بشخصية "ميشيل عفلق" من مؤسسي حزب البعث العربي ، وذلك في جمع "المنذر" لموظفين وطلاب ومعلمين وضباط في خلايا سرية يتولى قيادتها ، وما إن يعتقل حتى يتخلى عن "العصبة" ويعتزل ، مما يذكّر بما كان من عفلق إثر اعتقال "حسني الزعيم" له ، لقد كان "هاني المنذر" ينادي بإدانة الجميع بعد النكبة، ويروم للعصبة أن تكون الأداة الضاربة لكل وجهة نظر أخرى.
وسيتردد بعض ذلك في ثنايا القسم الذي ينشر لأول مرة هنا، من رواية "الحادثة"، بينما سيتراجع فيها ما رآه "عدنان إبراهيم" في "العصاة" من أن التحزب نوع من الاستبداد.
ولعل استعادة ذلك كله من رواية "العصاة" أن تكون ضرورية لدراسة رواية "الحادثة" ، وبخاصة ما ينشر منها لأول مرة، كما سيلي .
ولكن بعد هذه الخلاصة لما كنت قد قدمته بصدد ما ظهر من "الحادثة" ، وذلك كفقرة من محاولتي لدراسة إرث "صدقي إسماعيل" بعامة .
1- إن سؤال "العصاة" عن الأنموذج ، سينتقل من الصدر إلى المتن في "الحادثة" ، ليغدو، مع عناصر شتى مماثلة، من قبيل الميتارواية، كما نرى في نهاية الفصل التاسع، حيث يعتقد الشيخ "محروس"، شقيق الدكتور "توفيق"، أنه وحده هذا المجمع الشامي التقليدي، وأن كلاًّ من الآخرين هو أنموذج للكل. وقد هجا السارد بتدخله المباشر ما تحمل فكرة النموذج «من طابع تقليدي متهرئ تجاوزه الفن القصصي منذ زمن بعيد».
في الفصل الثامن عشر من رواية "الحادثة" ، وبعدما يفيض الكاتب في التحليل العميق الأخاذ لمشاع "ليلى"، يكتب «يبدو أول وهلة أن مثل هذا الإسهاب العفوي المشتت في التعرض لمشاعر الفتاة، لا يعني شيئاً أساسياً في وقائع الرواية، ولا سيما أنه من الوقائع الأكيدة أولاً ، وأن سرده على هذا النحو الاحتمالي ثانياً ، يلتبس بين الوصف الحيادي والاستنتاج الدخيل والتحليل المجرد، وهي كلها ، على ما هو مألوف في الفن القصصي ، تفتقر إلى الكثير من اللمسات الحية المحسوسة التي هي وحدها تسعف الآخرين في تمثل الملامح الإنسانية الصادقة لشخصية نسائية من هذا القبيل».
وليس يخفى ما في هذا المقتطف كسابقه ، من مكر الرواية إذ تفكر بنفسها ، وهذا كله من ريادة "صدقي إسماعيل"، لما سيتواتر في الرواية الحداثية العربية منذ عقدين .
2- تتضاعف عناية الكاتب في رواية "الحادثة" بشخصية البغي التي سبق أن عني بها في القصة وفي المسرحية. وقد تخلقت البغيّ في رواية "الحادثة" في شخصية "سهام" التي سيخفيها حاكم "حلب" إبان الاحتلال الفرنسي 1943، ويعلن موتها لتظهر باسم الراقصة والمغنية "سوسن" ، والتي ستختفي بدورها لتظهر باسم "سلمى".
وكما يليق بالحبكة التقليدية ، تكون البغي معقد العلاقة الصداقية والصراعية بين المعلم والكاتب الناشئ "محمود الرامي"، وبين الدكتور "توفيق الجابر" وحاكم "حلب" العميل للاحتلال.
أما "محمود" فهو يعلن أن "سهام" انتشلته من حضيض التعاسة ، وأعطته كل شيء.
وهو يتساءل : «من قال إنها بغي؟» .
ويردف السؤال بالسؤال الأكبر : «متى كان الجسد وحده مصير الإنسان؟».
وقد كتب "محمود" مرمزاً ، في رثاء "سهام" عندما شاع موتها : «أنت في مكانك السري المغلق من طرف.. والعالم كله من الطرف الآخر.. جميع الآخرين. تمنحينهم رضاك المعطر وتخونينهم جميعاً دون اكتراث. أية رعية مأخوذة يراقب بعضها بعضاً من أجلك، في غيرة وافية؟» .
وبالنسبة للبغي نفسها ، ترى "سلمى" أن الحب كلمة دخيلة ونابية، وإذا يؤكد "محمود" أن هذه الكلمة هي الحقيقة الوحيدة في وجوده مع "سلمى".
تقول: «إنها السؤال المثقل بالظنون، لا يرد إلا حين يكون هناك إحساس بأن الآخر ما يزال سؤالاً. ليس بيننا آخر». وبينما تتساءل "سلمى" عن علاقة الوفاء بالجسد، تقرر أن الجسد وحده يمنح المتعة والحماية.
وكان "صدقي إسماعيل" قد كتب في أوراقه المتناثرة التي ضمتها مؤلفاته الكاملة ، أن «حياة الإنسان هي الجسد، لأنه بالجسد تصبح الأفكار فعلاً، وتتحول العاطفة إلى عصب ودم ، ويكتسي الخيال نفسه لحماً تنبض فيه الدماء الحارة».
كما كتب الكاتب أن الجسد شيء من القدر.
3- لعل ما كتب الكاتب عن الصوت والجنس أن يكون وحده امتيازاً القسمان : الحادي عشر والثاني عشر" كما ارتسما في شخصية "توفيق" منذ المراهقة.
مع القسم المنشور من رواية "الحادثة" من قبل ، يصح القول بأن لكل قراءة جديدة للنص الثري ما تضفيه.
فبالإضافة إلى ما تقدم في البغي ، هو ذا "محمود" يقول: «صحيح أنهم يأخذون جسدها الآن، لكنه جسد جميل، يجب أن يعرف الكثير من التجارب، وقبلة حب طاهر صادرة عن القلب ، تغسل كل ما في الجسد.. هذه هي نظرتنا إلى الأمور... أنا وهي».
وسيوالي "محمود" مثل هذا التعبير عن رؤيته ورؤية "سهام" ، أو كما يرد في الرواية ، نظراتهما الفلسفية للجسد والجنس.
ف"سهام" كما يعبِّر "محمود" هي المرأة الوحيدة التي يعجز الجميع عن امتلاكها كلياً.
وهذه المستهترة في الظاهر، تشعرهم أنهم ليسوا في النهاية «إلا عملية حيوانية سخيفة يسمونها الرجولة».
أما "سلمى" فتخاطب "محمود" «حين تصبح النظرة سؤالاً.. وإيماءة الأيدي لغزاً.. وكلمة البوح سراً بعيد القرار.. ما يهمني، وأنت في كل جسدي وروحي، أن أمنح جميع رجال الأرض، كل ليلة، لذة ساعة قذرة؟».
ولقد علمها "محمود" أنها البغي المعلنة ، وأنها في حقيقة الأمر، القديسة.
ولذلك فهي عندما كانت باسم "سهام" لا تفعل إلا ما يريد، ولا تؤمن إلا بما يقو ل، ووحده كما تقول "سلمى"، يعلمها الحب ، كما أن جميع الرجال عداه سواء.
إن "سلمى /سوسن/سهام"، إن هذا الثالوث "س" كما يقول "محمود"، هو «الخيال الرائع».
ولا يفوت الكاتب أنه يسوق على لسانها من الأفكار المتعلقة بالجسد والجنس والبغاء والرجل والحياة، ما هو أكبر منها ، وهي التي لم تبلغ من الثقافة غير قراءة التعريف بالصور في المجلات والصحف، وغير كتابة الرسائل بكلام أقرب إلى العامي.
لذلك ساق الكاتب على لسان الدكتور "توفيق" هذا السؤال الاستنكاري التعجبي: «كيف يمكن أن تفكر فتاة شبه قاصر، ورعناء، وشبه مومس في مثل هذا المنطق؟».
وقد اكتفى الكاتب بالسؤال تاركاً عجب القارئ أو استنكاره معلقاً ، بينما تعلق "سلمى" الجنس البغوي ، فلسفياً ، بعنوان الرواية. فالبغيّ تحسن إظهار الرعونة والمجون، وفي هذه الحالة يتعرى الرجل بكل طبيعته المضحكة، وفجأة تقول "سلمى" : «أراه وقد أصبح حادثة آلية ، محض حركات عابثة معظمها لا لزوم له».
غير أن لعنوان الرواية متعلقات أخرى ولا يخفى نزوعها الفلسفي والترميزي لتكون الكلمة الواحدة "الحادثة" مفتاحاً سحرياً للرواية.
فالدكتور "توفيق" يحدّث نفسه عن استمتاعه بكل مسرات الشباب، ثم نقرأ: «ولكنك ما تلبث أن تتحول إلى حادثة آلية، مثل أي كائن طبيعي آخر».
وبالمقابل، ومع الشيخ "محروس الجابر"، تعود كلمة "الحادثة" إلى معناها المباشر ، فالحادثة تهدم بنيان الأسرة دفعة واحدة، بينما تعود كلمة الحادثة إلى إشعاعها في الفصل التاسع حول الأنموذج الروائي حيث نقرأ أن الحادث الروائي تاريخ إنساني حي ، وفي مثل هذا التاريخ يموت الأشخاص وتتساقط التجارب البشرية «لكي يبقى ما يمكن أن يلتقطه الفن».
لقد وسمت البوليسية ما سبق نشره من "الحادثة"، حين كانت "حلب" فضاء الرواية.
لكن هذه السمة المتعلقة باختفاء وظهور البغي بأسمائها الثلاثة، ستختفي بانتقال الرواية إلى "دمشق"، عندما بارح "توفيق" حلب.
وسوف يستمر اختفاء البوليسية في القسم الذي ينشر من "الحادثة" لأول مرة.
كما سيتوالى القفز في الزمن الروائي ، وهذا ما نتأ في الفصل الأخير من المنشور سابقاً ، حين نعلم في نهايته أن ليلى أم منذ سنوات.
وسيتوالى أيضاً الحضور المباشر للسارد كل حين ، والذي لا يخلو من الغلظة ، كأنْ يقول بصدد "رضوان" مثلاً: «وكانت خواطره في هذا المضمار على النحو التالي» ، أو أن يقول: «ما نزال نستقرئ مشاعر توفيق»، أو أن يقول بصدد الشخصية الجديدة في الفصل الجديدالثالث : «ومجرد أنني عربي - كما جاء في خاطر زياد - يعني أنني قومي»..
غير أن الأهم في هذا الذي ينشر لأول مرة من "الحادثة" هو الظهور السريع لشخصيات جديدة.
وإذا كان الانعطاف بالرواية من "حلب" إلى "دمشق" قد أنهى شخصياتها الأساسية الأولى "محمود وسهام والحاكم" فإن الشخصيات الجديدة ستهمش حضور الدكتور "توفيق" و"ليلى"، وهما من تبقى من الشخصيات الأساسية السابق.
يبدأ ذلك بشخصية صاحب الجريدة التي عمل فيها "توفيق" وهو طالب يدرس الطب في الجامعة ، وموظف أيضاً.
وقد بقي ل"توفيق" هنا نصيب من الحضور، بالعودة إلى طفولته وإلى ارتزاقه من الصحافة.
لكن ذلك سيتراجع مع ظهور شخصية جعفر الذي استدعي "توفيق" لمعالجته، فشخّص ما به كحالة عابرة من جنون الاضطهاد وسببها الجنس.
والدواء هو تزويج المجنون من بهية، لكن "جعفر" سيعزف عن "بهية"، لتقع في أحضان "توفيق".
والمهم أن السرد يكاد يُوقَف على قصص والدة "جعفر" وزوجها.
ويثير ظهور "بهية" الريبة في الذاكرة الروائية ، حين يبدو كأن "توفيق" قد تاب بعد زواجه من "ليلى"، وأن التحريم يهيمن عليه، لأنه لم يخطر له أن امرأة غير زوجته يمكن أن تقاسمه الفراش، فمتى انعطف توفيق هذا المنعطف ؟
مع شخصية "زياد" الذي يظهر في الفقرة الخامسة "العشاء" من القسم الذي ينشر لأول مرة ، تنعطف الرواية منعطفاً أكبر وأخطر، حيث تنوء تحت وطأة السياسة التي ستعنون الفقرة السابعة "مأساة السياسة" والثانية عشرة "عودة إلى السياسة"، ولا تخلو منها فقرة.
وسيبدو "زياد" بامتياز قناة الكاتب لتصريف أفكاره السياسية، وليس لتسريدها.
ف"زياد" الشاب الشيوعي سيتخلى عن حزبيته وشيوعيته، مما سيكون نهزة السارد لنقد وتعرية وهجاء "المرحلة الزيادية" من تاريخ الحزب الشيوعي، بالأحرى: المرحلة البكداشية للحزب الشيوعي السوري أو الستالينية بعامة، ولا ننسَ أن الزمن يعود بنا إلى خمسينيات القرن الماضي. على أن الأمر لا ينحدّ بتخلّي زياد عن الشيوعية، بل بمضيه إلى حزب البعث العربي ، قبل أن يتوحد مع الحزب العربي الاشتراكي ، ليصيرا معاً حزب البعث العربي الاشتراكي. وهنا قد يكون من الضروري أن يشار إلى نشأة "صدقي إسماعيل" في "أنطاكية"، وإلى مشاركته في يفاعته بالحراك الشعبي ضد ضمّ لواء اسكندورن إلى تركيا، وما كان يصخب آنئذٍ من دعوى عصبة العمل القومي، ومن حضور "زكي الأرسوزي".
وقد كان ما أعقب ذلك أكبر أهمية، سواء في تجربة النزوح من اسكندرون، أم في تجربة تأسيس حزب البعث العربي، دون أن ننسى ما تلا من المرحلة الجامعية في حياة "صدقي إسماعيل".
ليس المسار المعني هنا من حياة "صدقي إسماعيل" سياسياً وحسب، بل هو فكري أيضاً، وربما أولاً.
فالرجل مثقف بامتياز، وبقدر ما مالت به السياسة، مالت به الفلسفة.
والخلاصة أنه خرج على قومية "زكي الأرسوزي" و"قسطنطين زريق" و"ساطع الحصري"، بقدر ما التصق بها.
وقد بدا مرة وجودياً ومرة متمركساً ومرة نخبوياً ومرة شعبوياً.
ولعل من المفيد أن نستعيد، كرمى لقومية "زياد" في لرواية ، مما كتب "صدقي إسماعيل" في جريدة "البعث" (11/1/1957): «القومية العربية ليست ظاهرة جديدة تمخضت عنها الأحداث هي حقبة حية عبّر عنها العرب في مختلف مراحل حياتهم».
كما كتب "إسماعيل" في مجلة "الشرطة" (كانون الثاني 1971) أن القومية وجود، وهي طريق العرب إلى الإنسانية وحريتهم، وليست وقفاً على حزب، والثورة من صنع الحب.
وبالعودة إلى شخصية "زياد" في رواية "الحادثة" نراه إبان شيوعيته يتساءل عن مصلحة النخبة، مقابل ترداد حزبه لتكتل الطبقة دفاعاً عن مصالحها.
وإثر خروج "زياد" من السجن ومن الحزب الشيوعي ، يجلجل في حواره مع الدكتور "توفيق" أن الدولة هي الخوف الأبدي.
وهنا تعود الرواية إلى ما نسيته مع "زياد"، فإذا بغيرة "توفيق" على "ليلى" من "زياد" تدفع إلى الطلاق ، وإذا ب"توفيق" في الخامسة والأربعين من عمره ، يرفض جسد ليلة منذ عهد "بهية"، ويخاتل الموت الذي ليس سوى همود الجسد، ويقدم صورة رمزية للموت، هي ضجر الجسد، ونقرأ: «كان الجسد يعزله عن العالم، ويشعره بأنه قطعة محدودة بين ملايين الأشياء المتناثرة. أليس الجسد هو الذي يرغمه على التفكير الدائم بنفسه، سواء كان مصداً للذة أو الألم؟ والجسد ذاته يورده التهلكة في النهاية».
إثر ذلك تنسى الرواية "توفيق" وسواه ، لينفرد بها "زياد" الذي يأتي انتسابه إلى حزب البعث العربي مقالة تؤرخ لظهور هذا الحزب، وتحلل هذا الظهور ، حيث تتداخل عبارات الإيمان القومي ، والرسالة الإنسانية للأمة ، والعقائدية الصحيحة، وعنفوان الأمة.
وسرعان ما يُنسى "زياد" نفسه في غمرة المقالة السياسية ، وليس الفكرية الروائية.
ويمتد ذلك حتى قيام الوحدة السورية المصرية عام 1958 وانخراط الحزب في الجهاز الحاكم وحله.
واللافت هنا أن الرواية لا تذكر حزب البعث العربي الاشتراكي ، كما كان اسم الحزب قد صار منذ سنوات.
بالعودة إلى "توفيق" و"ليلى" تأتي خاتمة الرواية، عبر الرسائل التي تبادلاها ، وفقرة من يوميات "توفيق".
ويبدو لي أن هذه الخاتمة مع كل ما تقدمها ، مما ينشر لأول مرة ، كان لا يزال قيد الإنجاز.
وقد ضاعف الرحيل المبكر للكاتب من خسارتنا في عدم إنجاز رواية "الحادثة"، فنحن الآن أمام "الحادثة"كرواية مكتملة حسبما تؤكد السيدة "عواطف الحفار إسماعيل"، لكننا لسنا أما رواية منجزة فنياً، بينما يلوّح القسم المنشور منها سابقاً بوعود كبرى ، تؤكد وعود "العصاة" و "الله والفقر"، مما عده "أنطون مقدسي" بحق من عيون الأدب الكلاسيكي.
ومن حسن الحظ أن هذه الكلاسيكية التي تزدهي في سرديات "صدقي إسماعيل" ، قد تواصل ازدهاؤها فيما كتب من الرواية "عبد السلام العجيلي" ، "حسن صقر" ، و"فواز حداد" بخاصة.
لقد كانت ل"صدقي إسماعيل" مغامرته الإبداعية الكبرى ، فكتب في الفكر والنقد والمسرح والقصة والشعر والرواية. ولأنه رحل مبكراً عن ثمانية وأربعين عاماً ، فقد بدا في كل ما أبدعه وغامر به مثل شهاب ساطع ، سرعان ما نأى لكنه لم ينطفئ ولن ينطفئ ، لأنه "حادثة" بالمعنى الفلسفي العميق الذي رنت إليه رواية "الحادثة".
|