«الرُقُم المسمارية» تكشف أقدم محاولات الكتابة
«معبد العيون» في تل براك
يقع هذا التل غربي نهر "جغجغ" أحد روافد نهر الخابور وعلى بعد 42 كم من مدينة الحسكة. و على هذا التل كان مقر "نارام سين" وكان قوي التحصين منيعاً. ولقد شهد هذا التل أحداثاً عسكرية هامة، امتدت خلال حقبة طويلة من الزمن أي من الألف السادس إلى الألف الثاني ق.م، وفي هذا التل عُثر على بناء مدرج ومعبد وفيه عُثر على محتويات هامة، ففي المعبد عُثر على تماثيل حيوانات وأقنعة بشرية وعيون أصنام حتى سمي بمعبد العيون ، وتعود الى الحقبة 3500 - 3300 ق.م.
يعود تاريخ العمل للتنقيب عن الآثار في تل براك بالحسكة، إلى الفترة بين عامي «1937- 1939» عندما نقب فيه العالم الآثاري ماكس مالاوان «زوج الكاتبة الشهيرة أجاثا كريستي»، واكتشف فيه بقايا معبد يقع على مرتفع بيضوي الشكل بارتفاع ستة أمتار، وهو مبني من مادة الآجر، أُطلق عليه اسم «معبد العيون» إذ اكتشف فيه كثيراً من العيون النذرية، التي تعود إلى عصر «جمدة نصر» أي «3100- 2900 ق.م».
وقد أفادت الدلائل الأثرية، بأن المعبد أُعيد بناؤه فـي القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد، من قبل الملك الأكادي «نارام سن» الذي بنى قلعة على قسم لا بأس به من «معبد العيون»، لكن المعبد لم يلبث أن هُدم إثر حريق كبير، ليُعاد بناؤه في زمن سلالة «أور الثالثة» فـي عهد الملك «أور نامو» في الفترة الواقعة بين «2123- 2106» ق.م، وتشير الدلائل الأثرية إلى أن هذا الموقع الحضاري الهام قد هُجِرَ في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد.
كان لـ«معبد العيون» مذبح متصالب الشكل، أما الأبنية المُلحقة به فتشبه المستودعات، التي تُستخدم لحفظ الكنوز والثروات، فالمعبد هو القلب الاقتصادي للمدينة، جدرانه سميكة تضم أكثر من طابق وهي مُزينة بزخارف على شكل ورود متعددة الألوان، وبلوحات فسيفسائية على شكل القمع مزينة الرأس مغروسة في جدران البناء تبعاً للطريقة المُستخدمة بكثرة في المدن السومرية المُعاصرة له.
اكتشف فـي «معبد العيون» أختام مسطحة، منها ما هو على شكل غزالة مستلقية تتميز بواقعية رائعة ورسم على الوجه الخلفي، ومنها ماعزان يركضان وعصفور وإشارات تجريدية، وهـذا يدل على أن النحات في تل براك كانت لديه «ميول إبداعية» تختلف نوعاً ما عن زميله في بلاد ما بين النهرين.
كما اكتشف في ذلك المعبد مجموعة من التماثيل الصغيرة، وبشكل أقنعة ورؤوس صغيرة تحمل فـي قسمها العلوي أخاديد أفقية يُمكن أن تُثبت بواسطة المسامير، ولم يتم التوصل لمعرفة ما إذا كانت منفصلة عنها أم أنها توضع على رأس التمثال، وما يميز تلك التماثيل الصغيرة، عيونها الشديدة الاتساع، الأمر الذي قد يًوحي بأن العينين الواسعتين من المميزات الجمالية لذلك العصر، وقد اكتشف في هذا المعبد وحده قرابة 300 تمثال صغير من هذا الطراز، مما جعل «مالاوان» يطلق عليه «معبد العيون».
إن أغلب المُكتشفات النحتية في تل براك تُمثل شخصية واحدة، وتصور أحياناً أمهات يحملن أطفالهن بأيديهن، وأغلب الظن أنهن يُمثلن الآلهة «بالمفهوم المتعارف عليه وقتذاك»، كما يرجح أن اسم الموقع الحالي مستمد من «لاكوس بيراكي» المذكور في لوحة «بوتنغر» الشهيرة، التي وردت فيها أسماء المدن والمواقع الشهيرة للإمبراطورية الرومانية.
وتقارب مساحة التل مائة هكتار، عدا الأراضي المحيطة به، ويصل ارتفاعه إلى 43 متراً، وقد استقر تأريخ طبقات التل الحضارية على أن الطبقة العليا يعود تاريخها إلى الفترة الواقعة بين 1800 ـ 1600 ق.م.، فيما تعود طبقة السطح الأدنى «بعمق مترين» إلى عهد «أور» في حين تمتد طبقة العهد الآكادي زمنياً ما بين «2400-2100 ق.م» وعهد السلالات المبكرة «2700-2400 ق.م» وأخيراً عهود أوروك المتأخرة حتى تاريخ «3200- 3100 ق.م».
وخلال العمل الذي قامت به البعثة الآثارية الانكليزية، تم التركيز على التتابع الحضاري للألف الرابع والثالث والثاني قبل الميلاد، ووجدت في هذا الموقع كتابة تصويرية من أقدم ما اكتشف حتى الآن في مواقع الشرق الأدنى القديم، وقد تم تأريخ هذه الكتابة في نهاية الألف الرابع قبل الميلاد.
كما اكتشفت مجموعة من الرقم المسمارية، التي تعبِّر عن أقدم محاولات الكتابة التي قام بها الإنسان، وهي المرحلة التي تدعى مرحلة الأرقام والدوائر والإشارات، كما اكتشفت لوحة مسمارية يعود تاريخها إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، تمثل رسالة موجهة إلى الملك «طاناشومارا» وهو إبن الملك «شوتارنا» وفيها يرجوه مرسلها إطلاق سراح رجلين وامرأة وأولادها، وهذه الوثيقة المسمارية كشفت عن اسم ملك جديد من ملوك الميتانيين لم يكن معروفاً في السابق.
كما تم العثور على مجموعة هامة من الأدوات الصوانية تعود إلى العصر الأكادي، وعن رؤوس سهام دقيقة الصنع تعود إلى عصر البرونز القديم «2300 ق.م» وطبقات جديدة لأختام مسطحة، وسدادات جرار فخارية نقشت عليها رسوم حيوانات ومجموعة هامة من الأدوات والأواني الفخارية يعود تاريخها إلى الألف الرابع والألف الثالث قبل الميلاد، بالإضافة إلى مجموعة نادرة من الدمى الجميلة.