"أحمد برهو": ذاكرة الوجود في صناعة السؤال

محمد علو

أراد واستطاع أن يبحث كثيرا في نفحته الخاصة التي طالما استمدت رموزها من ملعب الطفولة وتراكماته التي أُختُزنت في زاوية ما، مستخلصا سؤاله في مساحات تجريدية ذهبت كثيرا في العمق.

حوارنا في المفكرة الثقافية مع الفنان التشكيلي "أحمد برهو" كان محاولة للغوص قليلا في ذلك العمق، فكان الحوار التالي:

* "الفن ذاكرة الوجود، وكل ما يتبقى من الوقت للوهم" هذه الكلمات قلتها في معرضك الأخير "جدار" عام 2009، والسؤال ما هي العلاقة الجدلية بين الفن والذاكرة والوجود؟

** عندما كتبت هذا الكلام قصدت به تجربتي وعلاقتي بالفن. لا أستطيع أن أعكس ما أراه بشكل مباشر حينما أتأمل ما حولي من طبيعة أو أشخاص. تتراكم تلك المشاهدات وتُختزن هذه المؤثرات جميعها في مكان ما، وباستمرار أحتاج إلى أن أتعامل مع هذه الذاكرة لكي أستعير من هذه الرموز و تلك العلاقات. وبالتالي علاقتي مع هذه الأشياء مرتبطة كثيرا مع مفهوم الذاكرة.

عندما تفحص الذاكرة لا تجد فيها مجرد فن وعلاقة باللوحة مرتبطة بتلك الذاكرة، بل علاقتك بالوجود كله -في كثير من الأحيان- مرتبطة بالذاكرة. وهذه الرؤية حيوية جدا بالنسبة لي، حتى أنّي في كثير من الأحيان أشعر بأنّه يجب أن أدخل مرسمي وأغلق الباب وأطمأن أن لا أحد يراقبني، من اجل أن ازور مكان عزيز على قلبي وهو زمن الطفولة. أمارس هذه الحالة باستمرار وبسرية عالية. وهذه المسألة ليست شخصية بالطريقة التي يمكن أن يتخيلها أي إنسان. هي استعارة لحالة أو رمز أو شيء ما غير مشخص بالطريقة التي نعرفها ولا يحمل ماهية بتلك الطريقة. ومن هنا أرى أن ما يصنع لوحتي هو ذاكرتي. واللوحة ذاكرة الوجود لأن كل ما بقي من حضارة ومعالم هو فنٌ فقط.

 

* رأى الأستاذ "نبيه قطايه" أن الفنان "أحمد برهو" اختار الصعود إلى أعالي الفن اللاموضوعي (التجريد)، فلماذا هذا الاختيار؟

** أنا لم أختر أن أكون تجريديا. تطوري الشخصي ولوحتي هما اللذان أوصلاني لذلك. بعد ما أصبحت لوحتي تجريدية ألتفتُ للوراء واكتشفتُ أنّ كل الأشياء التي أحبيبتها بحياتي كانت تجريدية.. وعندما أصبحت تجريديا سألت نفسي لماذا أحببت أعمال الفنان "فيرمير" اكتشفت أنّ لديه مساحات فيها ذاك الفراغ الذي لو أخذناه لوحده فهو مساحة تجريدية. فأستنتجُ بالأخير أنني حتى حينما أشاهد "الكلاسيك" كنت متأثرا بالجانب المجرد الذي يحمله.

أنا اعتبر كل إنسان مبدع يأتي إلى هذا الوجود وهو مختص بأن يعمل شيئا معين إذا لم ينجزه هو لن يستطيع أحد غيره إنجازه. وعندما أراجع نفسي ومنذ البدايات لا أجد نفسي أرسم بشكل تجريدي فحسب، بل طريقتي بالكلام وطريقتي في فهم الأشياء هي أيضا تجريدية. وبالتالي هي كتلة متكاملة في التفكير والرؤية والتحليل.

* في العام 1991 قدمت وبجرأة معرضا خاصا بالتجريد، ألم تكن مترددا أو خائفا من تقديم شيء غير مألوف كثيرا؟

** في التجارب الحقيقية لا مكان للخوف. والكثير من القضايا تُحل نتيجة هذه الكلمة. عندما تكون بصدد تجربة حقيقية نابعة من داخلك وأنت من يملك حلولها ولست ملتقطا حلها من خارجك حينها لا مجال للخوف.

النقطة الحساسة بسؤالك أنني بالفعل في ذاك المعرض سمعت الكثير من الكلام حول أني سأقدم لوحة لا يفهمها الناس كثيرا ولا احد يقتنيها. والمهم في ذاك المعرض أنّه شكل مفاجئة لكثير من الفنانين وحاز على إعجاب الكثيرين، حتى أن ما كُتب عنه وحده يوازي ما كُتب عن جميع المعارض الأخرى. ودليل هذا أن هناك جزءا من المجتمع لديه قابلية لأن يتعاط مع أيّة تجربة بشكل جدي حينما تكون مهمة.

* أنت ترى أن اللوحة الرديئة هي التي لا تمتلك لا منطقا ولا بنائية خاصة. والسؤال كيف تقدم اللوحة الجيدة تلك البنائية وذاك المنطق؟

** اللوحة الجيدة هي لوحة مبدع وليست لوحة فنان. الفارق بينهما جدا بسيط ولكنه كارثي! فالمبدع هو الذي يكتشف الصياغة الخاصة به. أما الفنان فيستعير صياغته من مصدر آخر ومن ثم يبني عليها. وبالتالي عندما تكتشف صياغتك بنفسك تستطيع تمرريها وتطويرها في ظل كل ما يواجهك من مشاكل وصعوبات. أما الفنان الذي يستعير صياغتاه من خارجه فعند أول مشكلة تتوقف الصياغة عن التطور لأنه بالأساس لا يعرفها، وأقصى ما يستطيع فعله هو تثبيت هذه الصياغة. والحكم النهائي على هذه الحالة لا يكون باللحظة الزمنية الآنية، وقد نضطر اللجوء للزمن لحل هذه المسألة.

 

* أيهما تخاطب في لوحاتك، فكر الإنسان أم حواسه؟

** لوحتي مرتبطة بمبدأ المسألة، حيث أنك بصدد لوحة وهذه اللوحة لا يوجد تواصل بينكما إلا عبر التواصل البصري. فحينما تقف أمام لوحة وتبحث عن المعاني أنت تلغي التواصل البصري وتحيلها إلى مسألة مقروءة وهي بالأصل ليست كذلك. اللوحة بمثابة كائن يجب أن تمنحها الوقت الكافي لكي تخبرك عن نفسها. اللوحات النبيلة هي التي لا تعرض نفسها من اللحظة الأولى، ومع الزمن تخبرك من هي وتصبح علاقتك بها علاقة مع كائن ذو إرادة مستقلة.

* وماذا عن علاقتك باللوحة قبل وأثناء وبعد إنجازها؟

** هي أشبه باللعبة لكني أعيشها بصدق. حين البدء بأية لوحة انسي كل ما أنجزته من لوحات في حياتي، واعتبر أن هذه اللوحة هي التي ستقرر أنني فنان أم لا. أول ما أبدا العمل باللوحة غالبا ما تقفز إلى ذهني الأفكار "الخسيسة" فأمارس عليها آلية الحذف، فالفكرة الأولى التي تزورك هي التشخيص وأنا لا أريد التشخيص، وأصل بالنهاية إلى أمر بسيط قد يكون لون أو مساحة، ومن خلال هذا المفترق أبدأ لوحتي، وأصنع متعتي التي تكمن في أني لا أعرف إلى أين سأذهب.

* يتحدث الفنان "طاهر البني" عن الألوان التقية في لوحاتك، ويشبهها بالموسيقى الغنائية الحالمة. ماذا تقول عن ذلك؟

** للوحة عندي مستويين. عن بُعد تشاهد العمل الذي يحمل علاقة بين المساحات اللونية، وعندما تقترب من العمل تجد طريقة أخرى وعمل آخر يتمحور حول نقاط صغيرة.

على الرغم من أني لا أحب كثيرا الحديث عن نفسي ولكني أشعر في بعض الأوقات أنني من أخطر الفنانين في العالم في اللون، من خلال القدرة على التنوع اللوني. فالهاجس الأساسي لدي هو العمل ضمن اللون واختباره وتنشيط الكثير من الدرجات اللونية والانتقال إلى عالم لوني آخر.

 

* أين تكمن الخصوصية التي يمتلكها الفنان "أحمد برهو"؟

** من أكثر الأشياء شيوعا في لوحتي هو مفهوم الثقل. نمط التشكيل في لوحتي يعتمد على تكثيف اللون وحصر المساحات بأعلى اللوحة وألجأ إلى أن يكون الفراغ في الأسفل، وهذا متعارض مع المبدأ الأساسي في الطبيعة.

العامل الآخر هو تقسيم اللوحة، فكثيرا من الأحيان أقسم اللوحة بشكل عمودي. لدي نزعة داخل المشهد الواحد عبر عوالم تصطف بجانب بعضها بشكل متلاصق. بمعنى أن الاختلاف في المشهد الواحد في اللحظة ذاتها للمشاهد الواحد هو قائم دائما وباستمرار. العنصر الثالث هو حضور المربع. والعنصر الرابع هو الخط الذي أستمده من خربشات الطفولة على تلك الجدران الخشنة.

* الروح الخفية لأعمال "أحمد برهو" أين تتمركز؟

** هذه الروح ليست سائدة، ففي كل فترة تسود روح معينة. في الفترة الأخيرة تهمني بعض المفاهيم كـ التقليلي والغير منجز. فمن خلالها أركز على ملامسة الخطأ في لوحتي. يهمني كثيرا أن أشعر بوجود خلل بهذا العمل، وهذا ببساطة يذكرني بأني إنسان. فأنا لا استطيع التقاط تلك الروح والشعور بأنها منجزة كاملة. ما يمكن انجازه هو أشياء بسيطة، والعمل لا ينتهي بل يصل إلى ما يكفي لهذه الحالة.

*بين تاريخ أول معرضك في العام 1989 وتاريخ اليوم هل من خلاصة؟

**المهم في حياة الإنسان هو قدرته على إيجاد سؤاله، والنفحة الخاصة بالفنان هي بمثابة سؤاله. عندما تستطيع أن توجد سؤالك يصبح من السهل عليك الإجابة عليه. والفكرة النبيلة من إيجاد السؤال هي أن تتيح للناس آن يجيبوا على هذا السؤال. فبدون وجود السؤال لا أنت ستفكر بالإجابة ولا غيرك سيبحث عن إجابة. والخلاصة هي أن توجد سؤالك.

يذكر أن الفنان "أحمد برهو" من مواليد حلب، عام 1965. تخرج من كلية الفنون الجميلة بدمشق - قسم التصوير في العام 1990 . أقام العديد من المعارض الفردية  بين حلب ودمشق وبيروت و باريس.

في عام 1989 قدم أول معارض الفنية المركز الثقافي السوفييتي بدمشق.  وهو لا يزال في السنة الأخيرة .  وتابع في سلسلة من المعارض كان آخرها معرض جدار عام 2009. كتب العديد من المقالات والدراسات عن الفن التشكيلي.