"أحمد م. أحمد".. المتناقضات في سلة النص
كمال شاهين
يقال إن أحسن الشعر "أكذبه"، ويقال أيضاً إن زمن الشعر انتهى، وحل محله زمن "الفيسبوك" وقصائده القصيرة إلى حدود الجملة الواحدة. وقد كثرت الأقاويل في حق ما اعتبر لحقبة طويلةً "ديوان العرب" حتى وجدنا من ينعيه وينصب فوق قبره منبراً للرثاء أيضاً!
على أن قول النقاد هذا، أو قول من لم يحسن "صنعة" الشعر بتعبير "أبي تمام"، يكذبه "ماء" الشعر الدافق في المطابع العربية عموماً، والسورية أحسنها رغم كل ظروف الحرب الدائرة في البلاد، عشرات المجموعات الشعرية التي تطبع، منها عبر مؤسسات الدولة ومنها عبر دور النشر الخاصة التي تطبع في الغالب على نفقة الشعراء أنفسهم أو بالتشارك معهم في التوزيع.
أحمد م. أحمد: غرائبية اللغة وحضورها البصري!
يعمل "أحمد م. أحمد" في الأساس مترجماً عن الإنكليزية، وهو بارع بشهادة عدد من كبار مترجمي العربية، ويقف معهم في الصف الأول للترجمة، ولعله في ترجمة الشعر الأميركي المعاصر والغائب عن المتلقي العربي، الأبرع والأكثر قدرة على التقاط تفاصيله بحكم معاشرته لتلك البيئة لسنوات طويلة عاش فيها في تلك الديار قبل أن يقفل راجعاً ليحرق "سفنه إلا نعشاً"، وهو العنوان الفريد الذي اختاره لديوانه الشعري الأول بعد مجموعة قصصية "جمجمة الوقت" (1993) وترجمات كثيرة أخرها سيصدر قريباً عن إحدى دور النشر القاهرية.
لا يخفي "أحمد" في مجموعته هذه حضوراً كبيراً للغة الشعرية الغرائبية، فهذه الغرائبية تطبع المجموعة وتؤسس لنمط شعري خاص به، قد يحتاج إلى تشذيب شعري في بعض معابر قصائده النثرية، إلا أن هذا لا يؤخر أبداً متعة التلقي الذي يصاب به القارئ مرات عديدة، متقفياً أثر الصورة التي يقدمها "أحمد" بكثير من الغضب إلى قارئه ضارباً عرض القصيدة بها ومحققاً جماليتها المفردة، وفي هذا صدقه الآسر كشاعر وإنسانٍ يستحضر ذاته على مرمى لغةٍ تنساب في سيل لغوي تحضر فيه المفردات القرآنية عاريةً من قداستها المفخخة عادةً.
في نصوصه، يستخرج "أحمد" جماليات القبح المفاجئة التي لا يتوقع أبداً أن تحتل مركز الانتباه في النص، ومرات عديدة يقف القارئ أمام جملة تبدو للوهلة الأولى قبيحة الحضور، إلا أن المشهد الكلي يقدم تلك الصورة ساخنةً واضحة، وفي تراكب العناصر الغامضة هذه، يضعها أمام المتلقي القارئ، وبأشكال مختلفة ف"كلماتي قارسةٌ /تمشي إلى جوار حيطان قارسة/ لولا البخار المتصاعدُ من أفواه/ الموتى المقنّعين".
وعلى امتداد المجموعة (160 صفحة قطع متوسط عن دار أرواد للنشر) يستبيح الشاعر كل المواضيع التي تعترض طريقه محولاً إياها إلى علاقات شعرية تنساب في نصوصه.
ليس هناك حدود للنص عنده، وفي هذا الجدل يذكر الشاعر "محمد علاء الدين المولى" الذي قدم للمجموعة قوله: "ما هو مضمر خلف جماليات القبح التي يستثمرها يتجلى في امتلاك الذات الشاعرة لحساسية جمالية عالية تجاه الواقع/العالم"، هذه الحساسية العالية تتضح في اقتراب حنون قاسٍ مع المشهد السوري المعاصر دون ابتذال ودون الدخول في جدل السياسي بالمطلق، ففي هذه الشعرية يحضر الإنسان المقهور وحده بطلاً لبياض الصفحات وسواد الواقع فهو السوريُ كما يقول "أُسريَ به من الوجع الأقصى/إلى القتل الحرام../ مشى فوق الدم".
يمكن تقسيم النصوص وفق الشكل الشعري إلى نوعين، الأول قصائد قصيرة تنتمي إلى "الفلاش" في صيغته النثرية الأولى، حيث يرتمي النص بكامله بكلمات قليلة محققاً الوقيعة الشعرية باختصار مكثف، وهذا الشكل هو الأكثر انتشاراً في المجموعة، ويبدو أنه الأفضل كوسيلة نقل للدفقة الشعرية لدى "أحمد"، وغالب هذه النصوص كتبها الشاعر على حائطه الفيسبوكي العام الفائت، ولقيت إعجاباً وحضوراً في ذائقة المتابعين.
في "فلاشاته" هذه، ينحت المفردات بتكثيف شديد جداً، وتكاد لا تلمح في بعض منها ترابطاً لفظياً سوى ذاك الخيط الخفي الذي يجمع المتناقضات في سلة النص، وبهذا يتفارق مع قصيدة النثر الحديثة في ابتلاعه المفردات وتوظيفها اللاوعي في صناعة فكرة يغلب عليها كما أشرنا غرائبية (سينمائية) يكاد يخرج منها ضباب الكلام متعالياً على المتلقي وكأن "آخر همومه" أن يتلقى الآخر هذه الرسالة، إلا أن هناك فلاشات تكاد تنفجر بوجه قارئها صارخةً به وناعيةً إياه أنه "ليس ذنبي، أنا الطفل المذبوح في المجزرة/ أن رجلاً قد توهم/ صوت ملاك الرب!!".(ص53).
النوع الثاني، النصوص التي يتركها الشاعر تمشي بكامل حريتها على بياضه، حاملةً موضوعها الإنساني كفيلم سينمائي قصير يتتبع الزمان والمكان ويقص علينا بها قصصه التي لا تنتهي في علاقته بالمكان البعيد (أميركا)، متخيلاً أحياناً وأحياناً أخرى حاضراً في عناوين وكلمات مصدرها هذا الـ (هناك).
هي علاقة تلتبس بين الانتماء المفخخ في سؤال الهوية، وبين الغرق في تشظي الإنساني في دورانه اللانهائي حول سؤال الوجود والكينونة، وفي هذه النصوص كما يقول الشاعر "عبد المولى" تكثيف لفلسفة اختصار اللغة عبر نص مختصر، اللغة تذهب في إيجازها وتكثيفها كلما اكتشفت كم هو الوجود كثيف (مقدمة الكتاب، ص9).
يخدم الشكل شاعرنا في تقديم موضوعاته الأثيرة، تحضر الآيروتيكا بكثافة لافتة، وتحضر الرغبات مكثفة هي الأخرى في عري اللفظة في حد ذاتها، ولكن هذا الحضور لا يشكل تبايناً مفرداً في متن المجموعة بقدر ما يندغم في السياق الشعري كجزء جوهي من المشهد، وإذا ما انتبهنا إلى رغبة الشاعر بإنزال المقدس عن علياءه التاريخي المجتمعي الثقيل، فإننا نكون أمام مزاوجة للإنساني الحقيقي مع الشعرية لإنتاج نص يأتزر بالواقعية المشهدية والبصرية التي تمتد في عمق المجموعة مفسحةً مدى المتعة حتى الإعادة مرات عديدة لنفس الصورة.
من قصيدة "ظل وسيف" (ص112):
"لم ينثر لوركا
ابتساماته الصفراء
أمام فصيل الإعدام،
لم يكن الشعراء الإمّعات
قد ولدوا في ذلك الحين!