"أديب قدورة".. البطل الشعبي في "الفهد"
هيسم شملوني
تعد شخصية الفنان "أديب قدورة" الغنية بتجربتها المليئة بالانحناءات والقلق الوجودي، واحدة من الشخصيات التي يندر أن يصادفها المرء في الحياة، لما فيها من متناقضات تتراوح بين الألم والفرح، واللهو والجد، فهو المدرس، الفنان التشكيلي، كاتب السيناريو، الممثل النجم...
كان للمفكرة الثقافية وقفة مع الفنان حول تجربته الشخصية، وعن العلاقة الداخلية التي تربطه بالشخصيات التي أداها، والتي ناهضت الظلم مثل "أبو علي شاهين" في السينما، "عطاف" في التلفزيون، "جيفارا" في المسرح، فقال: «بالنسبة لي هذه الشخصيات بشكل عام أشعر بها أكثر من الشخصيات العادية الأخرى.فمثلاً عندما قرأت سيناريو فيلم "الفهد" جذبتني شخصية "أبو علي شاهين" وكانت شخصيةً درامية هزت مشاعري ووجداني لدرجة أنني كدت أن أجهش بالبكاء عندما أنهيت قراءة السيناريو، للظلم والاضطهاد الذي تعرضت له شخصية "أبي علي". لقد رأيت "أبو علي" في فلسطين مشرداً عن بيته وأرضه، مقاوِماً أعداءه الصهاينة، رأيت فيه الفيتنامي المقاوم لأعداء الإنسانية، وما زلت أراه اليوم في العراق ولبنان وغزة والضفة، الفلسطيني المطعون في الظهر والصدر معاً من العالم كله لكنه لن يموت. أنا أشعر بنفسي مضطهدا كـابن لفلسطين، اضطهدت من قبل الاستعمار الصهيوني، ومن قبل دول العالم المنحازة لعصابات أسموها (دولة إسرائيل)، وهذا يعتبر قمة الظلم الإنساني، لذلك أحس بهذه الشخصيات الشعبية المظلومة الباحثة عن العدل والحق، وهذه المسألة تهمني كثيراً، إضافة أن الناس أحبوني بهذه النوعية من الشخصيات».
من فيلم "الفهد"
وأضاف: «اكتُشفتُ أساساً من خلال شخصيتي وصوتي، فعندما اكتشفني الأستاذ "نبيل المالح" لم يكن يعرفني أحد، وأثناء بحثه عن بطل لفيلمه، كان يتنقل من مدينة لمدينة في سورية، وصل إلى مدينة "حلب"، وكنت هناك أعمل مهندساً للديكور والأزياء في مسرح "الشعب"، طُلب مني مقابلة مخرج قادم من "دمشق"، رفضت في البداية وحاولت التهرب ظناً مني أنه يبحث عن دور لكومبارس، ولكن الأستاذ "حسين إدلبي" مدير المسرح قال لي: أنت موجود في الفرقة كمهندس ديكور ولكنك محسوب علينا كفنان فعليك الذهاب معنا لمقابلة المخرج، فإن أخذنا هذا جيد وإن لم يأخذنا فلا توجد هناك أي مشكلة، ومن الأدب أن نقابله ونلبي طلبه برؤية الفرع النقابي بـ"حلب". وبالصدفة رآني من بين عدد كبير من الأشخاص، وبعد تصوير الفيلم كان يتكلم عن نبرة صوتي بأنها مميزة، وبنيتي الفيزيولوجية التي ساعدت أيضاً، حتّى في مسلسل "الحب والشتاء" للمخرج الأستاذ "صلاح أبو هنود" قال لي: أخبروني بأن "أديب قدورة" من الممكن أن يعمل هذه الشخصية فانتظرتك، ومنذ أن رأيتك تدخل الباب قلت أنك "عطّاف"، مع أني في العملين كنت حليقاً بلا شاربين و ذقن، هذه المسألة تلعب دورها في اكتشاف شخصيات البطل الشعبي وغيرها.
ومن ذكريات طفولته كانت لعبته المفضلة القطار الصغير الذي صنعه بيديه، والذي تأثر كثيراً لفقدانه في النكبة الفلسطينية، وعن هذا يقول: « كنا فلاحين، وكان والدي يذهب ويفلح في الأرض وكنت أذهب معه لألعب في الحقل عندما كنت طفلاً، وكنت أصنع قطاراً من علب السردين وأغطية زجاجات المشروبات الغازية، وأعمل طرقاً، ومنحنيات، وقناطر..الخ، أحببت كل هذه المسائل وأحست نفسي أني أخترع شيئاً، هذا القطار عندما حدثت آخر معركة عندنا في "ترشيحا- فلسطين"، كانت معركة دامية وقصفت الطائرات القرية، وحدثت مجازر ودماء ملأت الساحات حتى أصبحت كبحر من الدماء، فخفت على القطار وأخفيته في جدار كرم الزيتون، ولكن عندما مشيت ونظرت إلى المكان الذي أخفيته فيه نزلت دمعتي وأحسست بأني لن أعود لأراه وألعب به من جديد، كان أمراً مؤثراً في طفولتي».
وتابع مضيفاً: «ومن المواقف المؤثرة في حياتي، أذكر أني كنت أركض مع أمي وأبي عند حصول المجازر ونرى برك الدماء وجثث الأطفال المتفحمة، البيوت المهدمة، كان قصف وحشي بشكل غير طبيعي، أذكر مناظر مأساة مجازر "قانا"، ورأيت شخصاً يحمل أطفاله وكله دماء، فتذكرت ابن خالي في مجازر "ترشيحا" وهو يصرخ أن هذا ابني وهو يحمل وسادة مبللة بالدماء ظناً منه أنه يحمل ابنه، وابنه إلى جانبه محترق بشكل كامل، هذه الوحشية لن ينساها التاريخ، لن ينساها من رآها وعاشها ولا حتى من سمع بها ممن لم يراها ولم يعشها».
وتابع حديثه وعلامات الأسى بادية على وجهه: «نحن كنا نزرع التبغ، كانوا يعملون في "المسطاح" وهو مكان العمل لتهيئة التبغ وكيفية تصنيعه ويقع على أطراف القرية، في الأماكن المريحة كمكان اصطياف مثلاً، كان عند والدي سرير أبيض مزين بالنحاس الأصفر في "المسطاح" كان ينام عليه ويرتاح بدل الذهاب للبيت، عندما خرجنا من"ترشيحا" بسبب المجازر والقصف، وصلنا إلى لبنان وكنا جالسين عند أشخاص في منطقة "الرميش" وإذ مرّت سيارات عسكرية كانوا فرقة مدفع ميدان من جيش الإنقاذ، وكانت قاعدتهم في "المسطاح"، وكانوا يحملون سرير والدي معهم، وقتها قال الضابط لأبي: (يا "أبو نجيب" جبنالك التخت)، ضحك أبي وتهكّم قائلاً: (بكفيني أحمل حالي) فنظر للتخت وبكى، أدرك وقتها أن المسألة أصبحت رحيلاً طويلاً. أن يأتي الجيش بالتخت كانت مسألة فظيعة بالنسبة له».
وعن شعوره بالظلم الداخلي الذي يشعر به، يقول: «طبعاً، أنا ظلمت نفسي وظُلمت في ذات الوقت، عندما عملت فيلم "الفهد" نجحت على مستوى محلي وعربي وعالمي، وأخذ العمل جوائز عالمية وحقق أرباحا وإقبالاً على شباك تذاكر، فرشّحت بعده لأكون النجم الأول في مصر وحاولوا إقناعي بشتى الطرق، ولكني من موقف أدبي وأخلاقي وموقف الوفاء لسورية وللصحافة التي كانت تكتب "نجم سورية الأول"، لم أرضَ الانتقال لمصر رغم أنها وطن عربي شقيق أحبه وأحترمه، ولكن كان صعباً عليَ التخلي عن سورية. في ذات الفترة أيضاً عرض علي أن أكون نجم الأردن لأني دعيت وعملت أول مسلسل أردني بمناسبة مرور خمس سنوات على تأسيس التلفزيون الأردني، قال لي بعض المسؤولين الكبار هناك بالحرف الواحد: حالياً من الصعب جداً لشخص (غير أردني) حتى ولو دفع مليون دينار أن يحصل على جواز سفر أردني، ولكن أنت إن أردت غداً سيكون الجواز الأردني في جيبك. ولكن نريد أن تكتب الصحافة عنك (نجم الأردن أديب قدورة) وتوظف في التلفزيون كموظّف شرف وتأخذ راتب موظّف شرف، واعتذرت عن هذه المسائل بسبب وفائي لسورية، ومعلومة جديدة أحب أن أضيفها وهي أن فيلم "الفهد" وبعد مرور 25 سنة على إنتاجه قد حقق جائزة أفضل فيلم في العالم 2005 في مهرجان كوريا الجنوبية، ومازال "أفيش" الفيلم موجوداً في متحف السينما الخالدة في ألمانيا».
من فيلم "امرأة من نار"
عن تواجده القوي في السينما وإهماله للتلفزيون، ثم حالة الغياب الطويلة، ثم الحضور التلفزيوني السريع ثم الغياب، عن هذه الحالة القلقة تحدث: «كان اعتمادي دائماً على الأعمال السينمائية فأنا قدمت كنجم سينمائي، لكن إلى جانب ذلك كان لدي العديد من الأعمال التلفزيونية، وبعد الأزمة الكبيرة التي تعرضت لها السينما توجهت إلى التلفزيون كخيار بديل، وفي مرحلة لاحقة ابتعدت عن التمثيل نهائياً واتجهت إلى كتابة عدة مسلسلات، لكني أحن إلى التمثيل بين فترة وأخرى، فقبل عدة سنوات وأثناء تصويرمسلسل "ليل السرار" تعرضت لحادث كانت نتيجته كسور عديدة بالقفص الصدري والورك، مما جعلني أتنقل طوال تلك المدة بين المنزل والمستشفيات،وعندما استعدت عافيتي شاركت بمسلسل "أعيدوا صباحي"،الذي تطرق إلى جوانب اجتماعية مهمة، وكان من إخراج "غسان جبري" ومن إنتاج الفنان "فراس إبراهيم"».