أقلام- أحمد الجندي- جريدة الطليعة

نشر أحمد الجندي (1909-1990) العديد من المقالات وقصائد الشعر في الدوريات السورية والعربية، وكانت مقالاته متنوعة منها الاجتماعية والأدبية والنقدية.

وأحمد الجندي ولد في السلمية من أعمال محافظة حماة، وتعلم القراءة والكتابة باللغة التركية والعربية في تركيا عندما كان والده منفيا هناك، عاد مع والده بعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918) إلى السلمية وتابع دراسته في مدارسها، ونال الشهادة الثانوية في ثانويات دمشق، وحصل على إجازة في الحقوق من معهد الحقوق بدمشق، عمل في التدريس في حمص وطرطوس، ثم عين في وزارة الداخلية ثم تولى رئاسة ديوان مجمع اللغة العربية في دمشق، وعضو لجنة الشعر في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب. كان له حديث أسبوعي في إذاعة دمشق حول الموسيقيين العرب وله مؤلفات عدة منها (شعراء سورية) طبع في بيروت عام 1965، وحقق العديد من كتب التراث.

وقد استمر في كتابة زاوية متنوعة لفترة من الزمن بعنوان (خلاصة الأسبوع) وكانت هذه الزاوية من زوايا جريدة (الطليعة) لصاحبها عدنان الملوحي (1924-2002) وكانت جريدة أسبوعية سياسية مستقلة، وقد كتب في هذه الزاوية في العدد (326) الصادر في 18 آذار عام 1957 تحت عنوان (حرية الأديب هي حرية المجتمع) ومما كتب مايلي:

"لا يجمل بنا وقد قرأنا بعض المحاضرات التي ألقاها الأدباء النابهون في مؤتمر الأدباء الذي عقد بدمشق في شهر تشرين الأول الماضي، إلا أن نلم إلمامة قصيرة أو نشير إلى بعض الملاحظات البارزة التي أبداها أولئك حول الموضوع الأدبي وحول الأديب بالذات، وعلاقة الأديب بالنقد والنقاد، والصلة التي تربط الأدب بالحكومة، وقد يبدو للقارئ لهذه الفصول المختلفة في عناوينها المتباينة في أسمائها أن هنالك أفكارا متباينة بالفعل أو أحاديث متنوعة متلونة، في حين أن البحث كله في هذه الوجهات المتفرقة من النظر إنما يجتمع كل في فكرة واحدة هي في اعتقادنا: من هو الأديب؟ وإنه لسؤال متسع الجوانب، متباعد الأطراف يستطيع الفكر أن يطوف ما يطوف حوله ويدور ما يدور دون أن يلم بكل جوانبه وأن يطلع على كل خفاياه، ولسنا نريد أن نوضح أن مثل هذه البحوث العقلية الصرفة لا يمكن أن تنحصر في حديث واحد أو تكون في حيز واحد لأنها أسرع انتشارا أو أكثر سعة من أن يمكن تحديدها بقالب محدود، وجهد الأديب الباحث في مثل هذا الصدد أن يسعى إلى الإحاطة بقدر الإمكان وأن يعمل على لم شعث هذا الموضوع الفسيح بما تمليه عليه قدرته واطلاعه وكفاءته والأمور في مثل هذا المجال نسبية حقا، وإنها لتتناسب مع الشخص الذي يريد أن يبحث والأديب الذي يريد أن يكتب.

ولقد دخلت السياسة هذه الأيام في صلب الموضوعات الأدبية فعكرت على الأديب مزاجه وأفرطت في التعرض له وقطع الطريق عليه فيما ينوي أن يقوم به من عمل، وأقصد بالسياسة المبادئ السياسية والاجتماعية لا السياسة العملية بالذات، لأن هذه المبادئ تعتمد الآداب والفنون فيما تريد أن تنشر من آراء وتعلن من مفاهيم لذلك فهي تسعى إلى حصر كل ما تمتد إليه يدها بهذه اليد حتى لا يخرج شيء على إرادتها ولكي لا يتصرف امرؤ مرتبط بها تصرفا قد يسيء إلى رأيها هي ومبدئها الذي تسعى  لإنجاحه وتقديمه إلى الناس على أنه المثل الأعلى في المبادئ الإنسانية، ولكن الأدباء أجمع لا يرون هذا الرأي، بل إن الطبيعة ذاتها لتحول دون انضوائهم تحت هذا اللواء، لأنه لواء يحد من الحرية، ولأن التوجيه بالمعنى الاقتصادي الاجتماعي لا يمكن تطبيقه على ما يسمى بالأدب مادام هذا الأدب لا يطيق القيد ولا يقبل بالحدود، فعقل الأديب، عقل يقبل الاطلاع على كل شيء مما يراه حوله أو يلم به ذهنه أو تنقل إليه الحواس الخمس والحواس الأخرى التي لا تحصى وقد ينتقل العالم الذي حوله كله إلى ذاته فيراه ويتفرس به ثم لا يسكت عنه بل يريد بحكم فطرته وطبعه، أن يصف هذا الذي أحس به، وأن يرى رأيه فيما دخل عليه من أحاسيس جديدة وأفكار طارئة، وهذه الآراء لا يمكن تقيدها بضابط أو بميزان فهو يتحدث وكفى، ويتحدث على طريقته التي هدته إليها سليقته دون أن يتقيد بشيء وعدم التقيد هذا قد يتنافى مع أصحاب المبادئ، بل هو متناف على التأكيد لذلك فإن الجهات الموجهة لا بد أن تسعى إلى إسكات هذا الأديب والإيعاز إليه بالاقتصاد في حريته، أو جعل هذه الحرية محاطة بقيد من عدم الحرية وهذا ما يحد من نشاط الأديب ويجعل إنتاجه غير معبر عن نفسه وآرائه ويجعله صورة مشوهة لما يعتلج في نفسه مادام لا يستطيع التصرف على هواه والجري على الطريقة التي يريد وتريدها فطرته، والانطلاق عند الأديب أمر لا غنى عنه أبدا، وهذا الانطلاق هو الذي يوحي إليه بالإنتاج وهو الذي يهيئ له ما يسمونه بالإيحاء أو الوحي الفني أو الإلهام إذا شئت وبغير هذا الإلهام لا يمكن لرجل من رجال الفنون أن يخرج للناس عملا فنيا له قيمته وله أهميته، وبغير هذا الإلهام يكون العمل عقليا صرفا ويكون نتيجة للاجتهاد وحده والدرس وحده وهذان لا يتركان من آثارهما إلا الفن الجامد الذي لا يتحرك فيه روح ولا يستوفي له إحساس، إنه فاقد الشعور للنفحة الفنية التي يتبارى بها القراء والكتاب والرسامون والموسيقيون، هذه النفحة التي تبعث في نفس القارئ أو السامع أو الرائي نشوة لا تعادلها نشوة أبدا.

وليست المبادئ وحدها هي التي تقيد الأديب وتقلل من شأنه وتحور في أدبه تحويرا يؤذيه ويجعله في واد غير الوادي الذي خلق ليعيش على جوانبه وبين سفوحه، فهنالك العمل الشخصي الذي يقوم به المرء فإن له أثرا بالغا في حياة الأديب الخاصة وهو يكيف ميوله وأهواءه، فإذا ضغط عليه هذا العمل وأجبره على مماشاته هبط مستوى الإنتاج وربما زال منه، لأن هذا الضغط أيضا يحدد حرية الفنان، الأمر الذي لا يقبله ولا يتقبله، وليس ليدلك على صحة هذا الرأي من حياة الأديب حين يكون موظفا مضطرا للعمل ساعات معلومة من نهاره، ومجبرا على الاستيقاظ في ساعة محددة والانصراف في ساعة أخرى محددة أيضا، وهو بحكم ذلك مجبر على أن يأكل وينام في أوقات تحددها الوظيفة نفسها فهو لا يدري في أي حين يكتب وفي أي زمن يقرأ، وفي أي حالة ينتج أو يأتيه إلهامه ليستطيع أن يكون أديبا فنيا بمعنى هذه الكلمة، ونتيجة لهذا كله نجد أن الأديب تواق إلى الراحة والاطمئنان مشتاق إلى الهدوء المطلق، يأمل السكون ويرجو الإغفاء في بعض الوقت ليحلم بماضيه وحاضره ومستقبله ثم ليكتب عن هذه الأزمنة الثلاثة كتابة تمليها الراحة ويبعثها الاستعداد العقلي والجسدي بعد هذه الراحة، أما الأديب الموظف فلا يستطيع أن ينتج لأنه يختلس الوقت اللازم له اختلاسا ويحتال على الزمن احتيالا، وربما كان هذا الزمن، وذلك على الأرجح، غير كاف، ويكون مضطرا لإنجاز العمل الأدبي الذي بدأه فيخرج هذا الإنتاج غير ناضج ويتكون مخلوقا غير سوي فالوظيفة إذا قيد لحرية الأديب، والأدب الذي هو فضلة من أوقات العمل الرسمي لا بد أن يكون أدبا غير مقبول ولا ناجح، ونتيجة لهذا فإن الغنى ضروري للأديب ليستطيع أن يستريح، ثم ليستطيع بعد هذا أن ينتج أدبا فنيا يليق بما فطر عليه من عبقرية، وليست النظرية القديمة القائلة بأن الفقر يشحذ الذهن، والبؤس يروي القريحة، والفاقة تدفع الفنان للالتجاء إلى فنه، إن هذه النظرية وكل الأقوال التي تشابهها إنما هي أقوال تافهة لا تستند إلى الواقع ولا ترتبط بمنطق ولا ترتكز على حقيقة، وإني لا أعتقد أن الغنى لم يطفف من شاعرية البحتري، والبؤس لم يزد في عبقرية ابن الرومي، وكذلك فأنا من المعتقدين، أن شوقي قد اعتمد على فطرته من غير شك، ولكن غناه وثروته وعيشه الرافه قد ساعده على الاطمئنان وعدم الاحتياج والسعي فخرج شعره رائعا وأمطر ماءه رائقا، ولما احتاج الشاعر ودفعه طمعه ليقرب من (السراي) لكان طمعه هذا قيدا له أثر في شاعريته فقلل من إنتاجها، أو أنه جعل هذا الإنتاج تجاريا يمليه التملق ويبتعثه حب التقرب من السلطان، وكذلك حافظ إبراهيم فلقد كان يمكنه أن يكبر كثيرا عما كان كشاعر يتحدث للجماهير فيفهم ما يريدون ويفهمون عنه ما يقول، ولكن البؤس أقعده من غير شك وأن كان قد أوحى له في أوقاته التي اختلسها من بؤسه ببعض القصائد القليلة التي كونت شخصية الشاعر الأدبية".