أقلام- جلال فاروق الشريف- مجلة (ليلى)
إعداد الدكتور مهيار الملوحي
ولد جلال فاروق الشريف (1925-1983) في دمشق وتعلم فيها، ونال إجازة في الحقوق من جامعة دمشق عام 1948، بدأ الكتابة في مجلة (الأديب) البيروتية عام 1945، وعمل في هيئة تحرير جريدة البعث منذ صدورها عام 1946، وأصبح مديرا لتحريرها من عام 1954 حتى عام 1958، نشر سلسلة دراسات عن الأدب السوفييتي في مجلة (النقاد) لصاحبها فوزي أمين.
تفرغ للعمل الصحفي والإعلامي، وأصبح مديرا عاما لمؤسسة الوحدة، ورئيسا لتحرير جريدة الثورة، وكان من المساهمين بإصدار مجلة (ليلى) عام 1962، شغل بين عامي 1964 و1966 وظيفة مدير الملحقين الصحفيين بوزارة الإعلام، وأصبح في عام 1970 سكرتير تحرير مجلة (الموقف الأدبي) التي يصدرها اتحاد الكتاب العرب بدمشق، وكان من مؤسسي جريدة تشرين الرسمية عام 1974 مع عادل أبو شنب وغيره، وله العديد من المؤلفات منها:
(الدعاية السياسية في خدمة الإعلام العربي) الصادر في دمشق عام 1964، و(الثورة العربية كما يراها الإعلام الغربي) الصادر في دمشق عام 1969، و(الشعر العربي الحديث) الذي صدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق عام 1976، و(في الأدب السوفييتي) الصادر في دمشق عام 1983 وله العديد من الكتب العالمية المترجمة.
وقد استمر جلال فاروق الشريف بنشر المقالات في مجلة (ليلى) وهي مجلة نسائية، فنية اجتماعية صدرت عام 1962 في دمشق وكان صاحب امتيازها ورئيس تحريرها الدكتور هشام فرعون ومديرها المسؤول محمود السيد.
وكانت مقالاته المتنوعة تنشر تحت عنوان (أوراق من دفتر ليلى) بشكل أسبوعي، على مساحة صفحة ونصف تتخللها بعض الرسوم الصحفية.
وكتب في هذه الزاوية في العدد (13) الصادر في 9/2/1963 مايلي:
"كنت سائرا في الطريق، على الرصيف المزدحم، عندما التقيت به وجها لوجه، ولم نملك كلانا إلا أن نقف، وقفنا وتصافحنا وتبادلنا عبارات تحية حارة صادرة من القلب.
لم أره منذ أكثر من 4 سنوات رغم أننا نعيش في بلدة واحدة وإذا أردنا أن نلتقي لم يكن أسهل من أن يمد أي واحد منا يده إلى الهاتف ويدير خمسة أرقام حتى يحدث صديقه، مع ذلك لم أفعل أنا، وكذلك لم يفعل هو، كنا صديقين حميمين، عشنا معا سنوات طويلة حافلة ثم افترقنا، فرقت بيننا ظروف، الأسرة، وظروف العمل، واهتماماتنا الخاصة، ثم لم نعد نلتقي.
أصبح لكل منا بيت وأسرة وأبناء وعمل واهتمامات كلها مختلفة، حتى أوقات التسلية والراحة التي كان من الممكن أن نلتقي فيها ذهبت.
لست أدري لم شعرت وأنا أصافحه كأن السنوات الأربع لم تبدل شيئا من عاطفة المودة والتقدير التي أكنها له، هكذا بكلمتين ومصافحة امحت سنوات عديدة وعادت المياه إلى مجاريها كأننا لن نفترق ولم يذهب كل منا في طريق، تحدثنا بحرارة ولهفة والناس يمرون من حولنا كأن كلامنا عائد من المهجر بعد اغتراب طويل، لم يكن حديث مجاملة ولكنه كان حديثا خارجا من القلب حقا، وامتدت وقفتنا معا عشر دقائق تبادلنا فيها الأسئلة والاستفسارات ما استطعنا تبادله ثم تصافحنا من جديد وتبادلنا الوداع ومضيت أنا في طريقي ومضى هو في طريقه، كأن كلانا ذاهب إلى قارة أخرى ولن نلتقي.
ما أعجب العلاقات الإنسانية: كيف تبدأ وكيف تنتهي!! إن حياة حقيقية كاملة قد تعيشها مع إنسان بكل ما فيها يذهب كل شيء هكذا بدون سبب مباشر واضح، تنتهي العلاقة ويتابع كل واحد طريقه نحو علاقات أخرى وأجواء جديدة.
كانت جالسة أمامي تستعرض مقالا كتبته، قالت: ماذا تقترح عنوانا له؟
قلت عبارة من المقال نفسه ما رأيك في كلمة (موت الأصدقاء).
قالت: فلتكن (الأصدقاء يموتون).
ولست أدري عندما كنت أحدثها كيف ذهب ذهني إلى لقائي مع ذلك الصديق القديم، لم أشعر مرة مثل تلك اللحظة، الأصدقاء يموتون حقا، هكذا حتف انفهم أو (موت ربهم) كما يقولون يذهبون من حياتك رغم أنهم على قيد الحياة كأنهم ماتوا فعلا، وعندما تراهم في الطريق تحس كأنك ترى أشخاصا أعزاء عليك عائدين من عالم آخر تفرح للقياهم وتغمرك مسرة حقيقية، لكن كل شيء لا يلبث أن يذهب من جديد.
إن مثل هذا اللقاء يشبه موجة البحر عندما تنحسر عن صخرة مغمورة فيها لبضع دقائق ثم تعود لتغمرها من جديد في أعماقها.
لماذا نريد الديمومة لعلاقتنا الاجتماعية وعلى الأصح لصداقتنا مع الآخرين؟
لماذا نحرص على أن تظل الصداقة صداقة والتفاهم والمحبة محبة؟ لماذا نحاول أن نوقف الزمن ونتطاول عليه لنبقي على أشياء لا يمكن أن تبقى ولنحول دون تبدل أشياء لا يمكن إلا أن تتبدل.
إن المحبة والصداقة والانسجام علاقات تعيش في الحياة النفسية في الزمان ولابد لها من أن تمضي في تياره إذا كانت علاقات إنسانية حقيقية لا تعقيد فيها ولا التواء ولا شذوذ، إن حياتنا كالنهر الذي يسير من منبعه إلى مصبه ويمر في طريقه على كل شيء والمهم في هذه الحياة هو أن تظل تمضي حتى نهاية الشوط، مهما مررت بشواطىء وعبرت جسورا، وطفا على سطحها ما يطفو وغاص في أعماقها ما يغوص.
المهم أن نعلم أن لا ديمومة حقيقية في الحياة؟ وأن كل شيء تمر به لا يمكن أن يستقر فيها استقرارا نهائيا، إن علاقتنا مع الآخرين إذا استمرت فإنها لا يمكن أن تستمر دوما على نفس الأسس ومن العبث أن نحاول أن نقيم علاقات لا يمكن أن يطرأ عليها التبدل والتغيير.
إن علاقات ثابتة دائمة حلم من أحلام المراهقة وإذا ما أردنا فعلا أن نستمر في صداقات نريدها من كل قلوبنا فإن علينا أن نبحث باستمرار عن أسس جديدة وصخور تستطيع أن تركز عليها في كل حين..)
الأستاذ جلال فاروق الشريف