"إسماعيل أبو ترابه" الشعور الحّسي بالنحت يولد حوارية الشكل
"إسماعيل أبو ترابه" نحات سوري، وله بالنحت منذ البدايات، وأصرّ خلال مشواره الفني العمل على إيجاد خليط مركب يخلق لديه خامة العمل، ويحدث تغييراً في المنحى النحتي السائد، قدّم في مشروعه عدّة معارض شخصية نالت حضوراً، لكنه سرعان ما يعود إلى فراغ مرسمه منقطعاً إلى الوحدة والبحث عما يثر أمامه أفقاً تشكيلاً جديداً يمسُّ التاريخ والإنسان والمثولوجية الشعبية.
ولد "أبو ترابه" في "السويداء ـ صلخد" عام 1946، وهو عضو في نقابة الفنون الجميلة في القطر. تخرج من كلية الفنون الجميلة ـ قسم النحت عام 1973، عمل مدرساً لمادة التربية الفنية في القطر، كما درسها في "المملكة العربية السعودية" عام 1979، وشارك بالعديد من المعارض الفنية والمدرسية هناك، ونال وساماً "درع ذهبي لمنطقة أبها" لتفوقه في مادة التربية الفنية.
للدخول في تجربة الفنان السوري التقينا مع الفنان "أبو ترابة" وكان معه هذا الحوار :
*ماهي طبيعة المشهد البصري المختار لأعمالك؟
**أتت مضامين أعمالي من التراث والموروث الشعبي وروائع الحياة، والمعاناة الإنسانية من اعتداءات على الإنسان العربي، فهناك مشاهد للشهيد والنضال ومشاهد أخرى تجسد معاناة المرأة في مجتمعاتنا الشرقية إل جانبها صورة الحياة الشعبية كالنخوة والفرح وغيرها.
*ذكرت الصلة بين اللوحة الزيتية والنحت، ما المقصود بذلك؟
**تقريب وجهة الصلة بين اللوحة الزيتية والنحت البارز هي أخذ صفة مفهوم اللوحة بأسلوب نحتي يعطي ذات التأثير على الذاكرة التحليلية، ويكون متمتعاً بخصوصية اللوحة الزيتية من حيث الشكل واللون المبتكر وتحوير موضوع العمل، ومنحه أبعاده ودلالاته، التي أعود في تشكيلها إلى الرمزية الحديثة ذات المعنى المستمد من الواقعية المعاشة، فعملت على خامة الصلصال والخزف والجبس والبولستر.
*ما هي أسباب جهل الناس بفن النحت الحديث برأيك؟
**مجتمعنا الشرقي مجتمع ديني محاط بعادات وعقائد ثابتة، بعض مبادئه كانت عائقاً أمام تنامي النحت وانتشاره، لكن بعد التطور الذي لحق به في القرن العشرين والواحد والعشرين أصبح شكله المعاصر يتبلور ويأخذ أبعاده في التعبير، لكن الرؤية البصرية للنحت الحديث أو المعاصر أصبحت بعيدة عن مفهوم الإنسان العادي وتحتاج إلى ثقافة عالية حتى تدرك قيمتها وأبعادها أسوة بالمدارس الفنية الحديثة التجريدية والسريالية والرمزية وغيرها.
النظرة الجمالية تقدر الفن
*هناك مفارقة بين تقنية "الريليف" والأسلوب النحتي الذي قمت على إبداعه، ماذا تقول حول هذه المفارقة؟
**"الريليف" نحت ذو بعدين فقط ويستطيع التعبير بأسلوب نحتي، أما طريقتي فأنا أعمل خلالها على كل معاني اللوحة الزيتية فتكون أحياناً ببعد واحد وأحياناً أخرى ببعدين وقد تحمل البعد الرابع: النفسي والجمالي، مع احتمال أن يكون اللون قريباً من التصوير، وهذا مستبعد في تقنية "الريليف".
*معالجة الأمّية البصرية، وخلق حالة من الانجذاب بين المتأمل والعمل النحتي، مسألة جدُّ هامة، من أين نبدأ بحلولها؟
**تعود العملية إلى الطفولة بحيث نزيد من ثقافة طفلنا الفنية يوماً إثر يوم، ومع تكرار زيارته إلى المعارض التشكيلية يتراكم لديه مخزون ونظرة جمالية تقدر الفن وتسعى في المستقبل إلى نهل المزيد من ثقافته، إلى جانب إدخال مادة الرسم كمادة رئيسية في المنهاج العلمي وليست مادة مكملة فقط، ونعلم أن تقدم الشعوب وحضارتها تقاس بقدرتها الفنية والجمالية، فماذا بقي لنا من الحضارات القديمة إلا أساطيرها و آثارها.
*قلت سابقاً: «أن حضارة الشعوب تقاس بحضارة فنها»؟
**كلما تقدم شعب تقدم معه فنّه لأن الفن عنوان للحضارة و مقياس وعيها الحضاري، ولن تجد أمّة لها إعلام فني إذا لم يوجد لها وعي حضاري، ونحن نعلم أن السائح الأوروبي يبتعد آلاف الكيلو مترات عن "دمشق" رغم هذا يزورها، ويدهش لما فيها من معالم أثرية و سياحية، فنراه كم هو متلهف لشراء عمل فني أو قطعة أثرية أو حتى التعرف إليها، فنجده مثلاً يسأل المئات من أبناء "دمشق" عن مكان المتحف الوطني فلا يعرفون والسبب .
نموذج مقيد بالتفكير المتزن
*أثناء الانغماس بالعمل على تهذيب المنحوتة وصقل وإيضاح معالمها، تنشأ حوارية بينها وبين النحات، وهذه الحوارية قد تكون مهداً لأسلوب فني جديد أو مشروعاً آخر، كيف تنظر إلى هذا الإيحاء؟
**العمل النحتي دائماً يبدأ بفكرة بسيطة، وبقية الأفكار تأتي بعد الخطوة الأولى فيخلق الفنان بخياله عدة مؤثرات داخلية تتفجر بالعمل أمامه، وتحيطه بانسجام شعوري حسّي, يولد حوارية الشكل والمضمون والتلاقي في عمل فني متكامل يشمل كل مكنونه ولمساته.
*ما مدى أهمية التوصيف البصري في العمل النحتي؟
**التوصيف البصري عبارة عن رؤية شخصية تعبر عن مدى ثقافة قائلها ومعرفته بالفن التشكيلي، وهو يزيد في رقي الفنان وإعلاء مكانة تجربته، أما النقد الحقيقي فإنه يحتاج إلى أشخاص أكفاء يتمتعون بخبرة فنية عالية وقدرة على تحليل الشكل
ومنحه أفقه النقدية الصحيحة، في الخط واللون والتكوين..هذا إل جانب الاطلاع على معارف الشعوب القديمة، وأخذ النقد بصفة محايدة بعيدة عن المبالغة والمعرفة الشخصية بالفنان.
*اتسمت الألوان ضمن أعمالك النحتية بالعتق والقدم، ما السبب في ذلك؟
**النحت هو مدّ النموذج الفكري بدقة التشكيل، وكونه عريق القدم، أتأثر بامتداده الموغل في التاريخ، وهذا التأثر يفجر في لوحتي اللون الهادئ تلقائياً، يلامس الطبيعة واحمرار تراب الأرض.. فيتخذ سمة العتق والقدم، وأحاول أن أخرج عن اللون الواحد وانطلق في عالم الألوان إلا أن النموذج لدي يبقى مقيد بحلقات من الرؤى المستمدة من التفكير المتزن في كل الأمور.
الجمال المتحرك في اللوحة
*شهد النحت السوري المعاصر انفتاحا ملحوظاً وانتقال من المحلية إل العالمية، ما تقييمك لهذا الانفتاح؟
**باتت الثقافة الفنية في عالم النحت تتشكل لدى المواطن العادي، وتشجع من قبل الدوائر الثقافية، وذلك أسفر عن ظهور نخبة من النحاتين السوريين، استطاعت أن تفرض وجودها بثبات وجرأة في الساحة الفنية، وبالتالي حققت انجازاتها مكانة عالية أدت إلى انفتاحها عالمياً وخلق تبادل معرفي وحوار مع الغربيين، بالتالي أصبح لدينا تأثر بالحداثة، وانعكاسه إيجابية على واقعنا المحلي.
*ما سبب خلود بعض الأعمال العالمية برأيك؟
**كلمة "الخلود" تأخذ عدة اتجاهات ومفاهيم وليست مرهونة بعمل فني ما، ولكن تحتاج إلى مقومات تتولد فطرياً في عمق الحالة التي يقوم النحات بتشكيلها، ولكل زمان أنصاره ومخلديه فنرى مثلاً عند "الفراعنة المصريين والإغريق" أعمالاً خالدة ومصنوعة من الأسلاك الهشة، بيمنا في مكان آخر نشهد أعمالاً مصنوعة من خامات ثمينة لكنها لم تتسم بصفة الخلود.
*ما أهمية التنويع المعرفي في مادة النحت وما انعكاسه على الحركة التشكيلية السورية؟
**الخبرة الجمالية معناها الثقافة الواسعة المنفتحة على حضارات الشعوب ومعارفها أو الانغماس في التنويع المعرفي الذي يتبلور ويتضح من خلال شكل المنحوتة ومضمونها النبيل، وهذا انعكس على الحركة التشكيلية السورية من قبل بعض الفنانين الرواد اللذين أسسوا هيكلية فنية حضارية للعمل التشكيلي، وغذوها بذلك التنويع، وهنا يتبادر السؤال:«أين دور "سورية" في إنماء هذه الحركة وانفتاحها عالمياً، والإحاطة بها إعلاميا في الداخل ونشاطها في الخارج»؟
*لو خيل إليك أن تفعل شيئاً ما على صعيدك العملي بعد كل هذه السنوات،ماذا تفعل؟
**أنحت أعمالاً نصبيه بحجر البازلت وذات أحجام كبيرة، تحقق شغفي ووفائي لهذا النوع من الفنون.
* ما منظورك للمرأة كونها تبدو تكويناً رئيسياً في أعمالك ؟
**المرأة هي الفكر النقي الذي أعبر من خلاله عما أريد ، لأنها الجمال المتحرك في اللوحة، هي الأرض والحب والسلام والقوة والسكينة.
التعبير عن الواقع المعاش
حول أعمال الفنان، قال الناقد السوري " أديب مخزوم":«يحاول "إسماعيل أبو ترابه" التعبير عن الواقع المعا ش عبر إحساسه بالقلق والوحدة والإنسان المعلق في الفراغ والمحاصر في الأمكنة المليئة بالحروب، والمفتوحة على معطيات الواقع المأساوي وألوانه الرمادية والقاتمة».
وأضاف: المنحوتة لدى "أبو ترابه" لا تركز على إغراءات وأناقة الصياغة الصالونية من حيث الديكور بل هي صرخة رفض تتجسد عبر الشعور بالصدمة اليومية من معايشة فصول الرعب والعنف اللامعقول، الذي يلف الحياة الراهنة المصابة بلعنة الحروب والمجازر الجماعية، التي رافقت تصدع وتفكك وانهيار الإمبراطوريات الحديثة ، أعماله تقدم إشارات كثيرة تمنحنا بعض الأمل بعود ة الحياة.
وقال "مخزوم" حول الجانب التشكيلي:« يتجه "أبو ترابه" نحو لغة تعبيرية وتقنية أكثر تمثيلاً لشخصيته وأكثر طموحاً إلى تأسيس أسلوب فني يرسخ بين لوحة وأخرى، وهو يعالج الأشكال ويقوم بتحويرها وتحويلها إلى مجرد خطوط ولطخات مبسطة تدخله في مغامرات تؤدي إلى إضفاء مناخية بصرية وتقنية جديدة لا تلتزم الضرورات الجمالية بقدر ما تلتزم الضرورات التعبيرية».