"الأبوذية".. بنت العتابا وأم مكارم الأخلاق

الحسكة – كسار مرعي

هو نظمٌ من الشعر يقال في حق من يتسبب في جرحٍ أو ألم لشخص آخر، وغالباً ما يولد هذا النوع من الشعر في حالات العشق التي تبلغ ذروتها، ويقال إنه أخذ اسمه من الأذية، ويرده العارفون إلى أصله الذي خرج منه وهو "أبو أذية"، أي من خرجت منه الأذية، ولا يمكن حصر الوقت الذي ظهر فيه هذا اللون، إلا أن أرجح الأقوال يرده إلى عام 1800 للميلاد، وهو تقريباً من أحدث الألوان المحكية التي ظهرت.

يقول الشاعر "إسماعيل الحصن": "الأبوذية بنت العتابا، فهي تُكتب على نفس الوزن والإيقاع والقافية؛ إلا أنها تختلف عنها بالقفلة أي "القافية"، إذ ينتهي بيت الأبوذية بياءٍ وهاء ومنها:

وَرد حُبَك سگيته مي زيادة

وإذا أنطيك روحي مي زيادة

مثل جبران صرنا ومي زيادة

عشقنا طال والعلّة خفيه.

ويمكن للأبوذية أن تكون ساحة للمباراة بين الشعراء، إذ يجوز للشاعر الرد على ما يسمع شعراً، ومما رد به على هذه الأبيات:

صروف الدهر لو حكمن يا جبران

وتصاييبك فلا ظنتي يجبران

أريد أشكيلك أحوالي يا جبران

مي العذبتك؟ .. عندي ميه.

وبحسب "الحصن" .. يلعب الشعر في المناطق التي تغلب عليها الحياة القبلية؛ دوراً بارزاً لا بل منقطع النظير في انهاء المآسي والخصامات، فإذا وقع الشعر في قلب السامع أو من بيده زمام الأمور، وتجلّى له المعنى فمن المؤكد أن تنتهي القصة التي قد يستعصي حلُها، ويذكر فيما تناقله الحافظون، أن رجلاً ترك قبيلته وسكن بمضارب قبيلةٍ أخرى، ومن عادات العرب "القبائل" ألا يُسأل الضيف أو من طلب اللجوء إليهم عن خلفيات الأمور التي ساقته لترك أهله، فمكث الرجل بينهم وانجب أطفالاً كبروا وشبوا بين أطفال القبيلة المستضيفة، ونشأت قصة حب عذريٍ بين الشاب وابنة وجيه القبيلة، إلا أن والده لم يكن يرغب في أن يزوجه منهم لاعتباراتٍ في نفسه، ولم يكن أمام والد الشاب إلا أن يرحل ليخفف العذاب عن ولده، فأمر بترحيل الظعن، وبدأ العمل على ترحيل البيت؛ وكان هذا ليلاً، إذ يجب على الرجل أن يترك القبيلة قبل شروق الشمس وقبل أن تستيقظ الفتاة، إلا أن الحب أيقظها فأقبلت تركض على بيت حبيبها، فتعثرت بحبل البيت "المچادم"؛ وجثت على ركبتيها، وأنشدت تقول:

سرا ضعن الأحبهم وين يرْدون

وضمايا ومن دموع العين يردون

إذا أهلك عبد يا ترف يردون

أنا أرضى إذا يرضون بيه.

وقيل أيضاً:

سرا ضعن الأحبهم ما تونّى

ومثل وني الخنسا ما تونه

چثير احنا من أهلّنا ماتوا إلنا

وما فجوا مثل فجتك عليه.

ويُذكر أن أفضل من كتب الأبوذية هم سكان ما بين النهرين، ويخص الباحثون في هذا المجال أهل جنوب العراق، ومن أشهر الشعراء الذين برعوا فيها "عريان السيد خلف وكاظم إسماعيل الكاطع والحلفي وعادل محسن ومالك الحزين"، وتغنّى الأبوذية على نطاقٍ واسع، إذ أنها تتميز بوقع رطبٍ على قلب السامع، وتعتبر كلماتها القصيرة من أقدر الكلمات على توصيف الحالة نظراً لما فيها من التصريح والتلميح والتورية.

ويرى "الحصن" أن هذا اللون من الشعر يتكيف مع الشاعر، فهو وجد ليحاكي قصصاً وحكاياتٍ بشكلٍ رسمي، إلا أن الشعراء تمكنوا من توظيفه في عدة أماكن، وأكثر ما جاد به الشعراء هو الفكاهة، مشيراً إلى أنه كتب عدداً من الأبيات في هذا الجانب منها:

ترف همك بنص قلبي علي داي*

وأنا الربيتك زغير على إيداي

لعبت طابة بدليلي چن علي داي

إذ دعيّع**فلا يلحق عليه.

كما يمكن الاتكاء في كتابة الأبوذية على كلمة عابرة أو معلومة طرقت مسامع الشاعر، لذا يجب عليه أن يكون ذو ثقافةٍ عالية ليتمكن من توظيف المحتوى مثال:

وجمالك أشهر من كتاب وليم

وبحر حبك إذا حنيت واليم

وإذا تنده لأمك صوت ول يوم

أذوب بكل حرف يوصل عليه.

كما يجب على الشاعر انتقاء الكلمات البسيطة التي لا يُنكرها المستمع البسيط، إذ تحمل اللغة العربية معانٍ كثيرة لا يمكن الإلمام بها، وعليه يجب أن يبحث عن أبسط المفردات لكي لا يتحول المتلقي إلى مستمعٍ للإيقاع ؛ دون أن يقع في قلبه شيءٌ من المعنى، وإلا فعلى الشاعر أن يقوم بتوضيح الكلمات ذات العيار الثقيل من خلال التوقف عندها، ثم يكمل ما بقي من القصيدة ومن هذا النوع:

من عيونك سهم بحشاي منسَّر***

والك گلبي شكثر زعلان ما انسر

مشت روحي ويا ضعن الزين من سار

أمانه الروح ردوها إليه.

ويختم "الحصن" بالقول:« بدأ بعض الشعراء مؤخراً وأنا منهم بالخروج عن قاعدة المألوف في نظم الأبوذية، فمن المعروف أنها تقفل في البيت الرابع بياءٍ وهاء وتنتهي معها القصة، أما الآن فيقوم الشاعر بكتابة مسلسل حول نفس المحور، ويمكن أن يقفله بياءٍ وهاء عند كل بيت يكون ترتيبه الرابع، كما يمكن أن ينهي مسلسله الشعري ولا يقفل إلا في البيت الأخير أما الأول فيكتب عبى هذا النحو:

أحس من زغر سنك وآنا أعدك

وأعد كل المحاسن من أعدك

وأحس وأنت بعيد الروح عدك

وأحس بالنبض تسري انت بيه

....

لأنك صرت آني وكل ناسي

ولا فد يوم شخصك آني ناسي

وإذا تبعد دليلي عليك ناسي

وإذ تقرب سرور يصير ليه

....

لأنك نبض گلبي وبيه ساري

ومثل نسمة صبح لهواي ساري

ذهب انت يا غالي وبي يسري

وتضل ساكن ضلوعي للمنية

...

وأحبسك بالصدر أبداً ما أهدك

وتضل يمناي بيسارك ما أهدك

مثل ميه وجرف عالي مهدك

أضل عطشان ميك مو بيديه.

أما ما يكتب متسلسلاً بدون القفلة حيث يتركها الشاعر لنهاية القصة فهي:

على الرقبة قطن يلبق وصوف خاص

عجزت ينرادلك گعدة ووصف خاص

أحبك قبل ما تدرس بصف خاص

لا حتى قبل ما تصير عاشر

ولا نوبة الگلب للغير عاشر

ولا غبّرت خير البيك عاشر

لأن هذا العشق واضح أساسي

انخلط بدماي من راسي لاساسي

ويمكن گبل ما ندرس أساسي

وأروّض بالقلب لهواك أروضه

لأن واحة ورد حبك وروضة

ويمكن قبل ما حطونا روضة

ويمكن بالمهاد انت إليه».

* علي داي ..لاعب في المنتخب الإيراني

** دعيّع .. حارس المرمى السعودي

*** منسر .. منقار الطائر الحر