السوريون في الشهر الفضيل
علاء الجمّال
رمضان… شهر الخير والصيام، هلّ على "سورية" ضيفاً كريماً مهدياً للمحبة والفضيلة، منهياً للعداوات والأحقاد، صديقا حميما ينتظره السوريون كل عام رحمة من "الله"، يشكون إليه حاجاتهم وأحوالهم, محاولين التكفير عن ذنوبهم وأخطائهم بالدعاء والإحسان، فتجدهم يهيئون لقدومه بإحياء العادات الرمضانية الشعبية، والطقوس الدينية الصوفية، والوجبات الشهية في السحور والإفطار.
«نتهيأ لمعايشة الشهر الفضيل بالصيام والإحسان والتقوى، محاولين التكفير عمّا قمنا به من الأخطاء والأفعال غير الحسنة بالتضرع والدعاء والتسامح»..
هذا ما بدأه السيد "غياث الحموي" في حديثه عن الاستعداد النفسي للدخول في شهر "رمضان"، وهو من ساكني حي "القيمرية"، وأضاف: أثناء الأسبوع الأول من الشهر تبدأ العائلات بزيارة بعضها بعضاً وتبادل التهنئة والمعايدة، وتبقى على صيامها حتى 25 من "رمضان" حيث تبدأ التهيئة للعيد من حيث التسوق والاحتفالات، ويكفي أننا في هذه الأيام المباركة تجمعنا الألفة والمقاربة بوقت واحد، خاصة من كان مغترباً عن الوطن بداعي العلم أو العمل.
وحول الوجبات التي يفضلها الدمشقيين أثناء الشهر، قال "الحموي":«تحتفل العائلات الشامية المحافظة على تراثها وتقاليدها أثناء الشهر الفضيل بصناعة "المعمول" ضمن المنزل، وهو تقليد متوارث منذ 200عام عن الآباء والأجداد، ويعدّ وجبة مفضلة عند الإفطار، إلى جانب "الفول والفتوش والفتة بالسمنة"، وعند السحور يتناولون وجبات خفيفة مثل "الزبدة والحلاوة والجبنة" والفواكه».
وأضاف: أثناء سفري إلى دولة "مصر" رأيت السحور والإفطار لديهم مختلف عما هو في "سورية"، فهناك يتناولون الوجبات الدسمة عند السحور، والخفيفة عند الإفطار، وكل بلد عربية لها خصوصية تميزها عن الأخرى في هذا الجانب.
عادات تراثية
وقال "محمد علي" من سكان منطقة "الشاغور":«اتسم "رمضان" بالعادات التراثية التي تُحيا خلال أيامه، فمنذ 40 عاماً انتشرت حكايات "كركوز وعيواض"، وكان والدي في حضور دائم لها وفي أيامنا الآن أصبحت تراثاً من التاريخ الدمشقي، لكنها متواجدة في مقاهي "حلب" الشعبية. أما الحكواتي ما زال مستمراً إلى الآن يروي قصصه الشعبية والملاحم البطولية "لعنترة والزير سالم والظاهر بيبرس وأبو زيد الهلالي"، وأنا من متتبعي تلك السير والملاحم التي تصبح أكثر تأثيراً وحضوراً في "رمضان"».
وأضاف: هناك "الفطرة" الزكاة ويجب أن تكون مدفوعة في صباح اليوم الأول للشهر، وكلٌ على حسب مقدرته المالية حيث تهب هذه الصدقة إلى ذوي الحاجة كضعفاء الحال والمعيشة وللمسحراتي نصيب منها فيقدم له الطعام وأحياناً المال أثناء إيقاظه للنائمين من أجل السحور.
السيدة "هزار دك الباب" مغتربة في "السعودية"، قالت حول العادات الرمضانية هناك:« كوني مقيمة في "السعودية" منذ 14 عاماً فعاداتي تميل إليهم، ومعايشتهم "لرمضان" تختلف عمّا هو سائدٌ هنا، فتجدهم يتناولون الوجبات الدسمة على السحور مثل "كبسة الأرز" وأنواعها و"الماركوك"، وهو خليط من الوجبات الشعبية المشهورة لديهم، ويتألف من صلصة خضار مضافة إلى عجينة شبيهة بعجينة الخبز، ولا ننسى"اللبن" ويعدّ ضروريا في مائدتهم الرمضانية. وأثناء الفطور يتناولون المحشيات والمعجنات و"الثريد" ومرقة خضار.
إحياء التراث الرمضاني
لمقهى "النوفرة" في "دمشق" القديمة دور في إحياء التراث الرمضاني، ويعود تاريخها إلى نحو 300 عام ومؤسسها "صالح الرباط"، وهو بأجوائه العائلية مكانهادء للترفيه عن النفس، يقصده الزائرون للتمتع بقصص الحكواتي واسترجاع الذكريات واللحظات التي جمعت لهم محبةً في أيامٍ مضت، فكيف مع شهر اليمن والبركة.
مقهى النوفرة في دمشق
السيد "أحمد الحارس" من مرتادي المقهى قال:«شهر رمضان في "سورية" من أجمل الأشهر وأكثرها تأثيراً على النفس في دفعها للخير والفعل الحسن، ويكفي أن وجوده ينهي الخلافات ويثير الصلح والوئام، ويوّطد علاقات الأخوة والمودة بين المسلمين، خصوصاً أثناء الزيارات المتبادلة والمفاجئة التي تحدث بين الأهالي والأشقاء والمغتربين والتفافهم حول مائدة واحدة وتبادل محاورات فيها الشوق والعتاب».
وأضاف: في الزاوية الشمالية من حي "النوفرة" يقع جامع السيدة "الرقية" بنت الرسول، وفيه طلاب من دول عربية وإسلامية، يتعلمون أحكام الشريعة والفقه الديني، والمميز أن المعونات من الطعام والمال تأتيهم طيلة السنة ودون مقابل من قاطني الحي، فكيف مع شهر رمضان؟
وللمقهى تحية ذات طابع خاص يستقبل بها الشهر..عن ذلك قال السيد "محمد ذيب الرباط" من مالكي المكان:«بعد صلاة التراويح والإفطار تفتح "النوفرة" أبوابها للمارة والسائحين وتقدم لهم مشروباتها الساخنة "القهوة والزهورات والكمون" وزبادي "الفول" الناضج، ولا يمضي وقت قصير حتى يطل حكواتي "الشام" بسيره وقصصه الممتعة ويبقى حتى ساعات متأخرة من الليل مع سحر النرجيلة الرمضانية».
الحكواتي في المقهى
وأضاف:عند صلاة الفجر في الجامع الأموي يجتمع الناس لطلب المغفرة، واستماع القرآن والتراتيل الدينية، ثم التمتع بتناول الحلويات الدمشقية في "العمار ة والغزّة والشامية"، وهي من أكثر المحال عراقة في صنعها، ومن بعض الأصناف "العصمليّة والنمّورة والغريبة والوربات بالقشطة".
الشهر الفضيل ملهم للفنانين التشكيليين
يشكّل شهر "رمضان" عالماً ملهماً للفنانين التشكيليين فما طبيعة هذا العالم؟
عن ذلك قال الفنان التشكيلي السوري "نعيم حمادي" لـ "e Syria":«"رمضان" شهر مميز، ضيف ظريف يأتينا في كل عام وقبل أن نملّه يذهب، وأفضل ما فيه توقيته الذي يأتي قبل موعده بعشرة أيام مما يجعله يدور فصول السنة كل 36 عاماً، وهذا يكسبه تجديداً مستمراً، وذلك أن السنة الهجرية أقل من السنة الميلادية بعشرة أيام».
وأضاف: يذكرنا الشهر بأصلنا الإنساني "آدم وحواء"، ويشعرنا بشعور بعضنا ويوحد آمالنا، من هنا فإنه يتحول أمام الفنان التشكيلي إلى عالم إلهامي مضيء بالتقوى والسكينة والسلام، لهذا رسمت الناس في أجوائهم والمسحراتي والمآذن في الجوامع كمئذنة "العروس" في الجامع الأموي. لقد كنّا نعيش على سفح جبل "قاسيون" ننظر إلى مئذنة الجامع الأموي قبل الغروب، والبعد كان يمنعنا من سماع صوت الآذان إلا أننا نشعر به، من ثم نسمع صوت مدفع الإفطار فتزداد الزيارات والصلات الاجتماعية بين العائلات وصلة الرحم وتتوحد الموائد وتتبادل الأطعمة وتخف الفوارق الطبقية وتكثر أعمال الخير والصدقات .
وقال الفنان التشكيلي السوري "معتز البشار":«"رمضان" من المناسبات العميقة في نفسي، الموجودة في حدائق ذاكرتي البعيدة وفي الطفولة، فالشهر هو المكان ورائحة نفحه الحاضرة في الطبيعة وفي وجوه الناس المرتبطة بالتسامح والالتزام، إنه التجربة الأولى نحو احترام القرار و رياضة النفس والصيام».
وأَضاف: أنتظر الشهر في كل سنة لأنه الذكرى والوضوح، وانتظاري له ناتج عن ارتباطي بعقيدتي وشعوري بوجود "الله" من خلال التفاصيل الحياتية اليومية من مشاهدة أجواء الناس في "رمضان" الذي أحيي عبره الكلمات المختزنة في خبايا الذاكرة، إنه فترة للاسترخاء والتأمل البصري ومحاسبة النفس على أفعالها، والمميز خلال الشهر هو التقشف في الأشياء وهذا يوائم مساري التشكيلي في اللوحة من حيث التقشف بالخط والتكوين واللون.
التوحّد مع "الله" والسمو في عوالم المثل والقيم
وللشهر خصوصية في المساجد وتأثير على المصلين في استجداء الرحمة والمغفرة. "e Syria" زار جامع "أبو ذر الغفاري" في منطقة التضامن "بدمشق" والتقينا الأستاذ "عبدو الأشكي" مدرس فقه وشريعة، فقال:«للشهر المبارك مكانة خاصة لدى المسلمين في الأمة جمعاء، فهم يستبشرون بقدومه لأنه المغفرة والمحبة فيه يزيد المؤمن طاعة ويقترب من خالقه وأعظم ما ينتج عن ذلك التزام المسلم بأخلاق الصيام، ولا بدّ أن يكون للفريضة أثر حسن في نفسه».
وأضاف: ليس الصيام فقط هو الامتناع عن الطعام والشراب وإنما هو الصيام عن الفواحش والمنكرات والمعاصي وضبط النفس من أي إساءة للآخرين، وتعويدها الفضائل والعمل على تهذيبها من النقائص والرذائل.
وحول العبادة في رمضان أشار "الأشكي" إلى أنها التزام بجانب الطاعة والمحافظة على صلوات الجماعة وتلاوة القرآن وصلاة التراويح، وتعتبر نوعا من قيام الليل للدعاء والتضرع»، كما أوضح أهمية الشهر بأنه الوقت الذي أنزل فيه اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم كان نزوله على النبي "محمد" مقسّماً بحسب الوقائع والأحداث على مدى 23 يوماً، وبما أن الإسلام دين التوحيد فتجد المسلمين يمسكون عن الطعام بوقت واحد ويفطرون بوقت واحد مما يؤكد وحدة الأمة، وقال تعالى:«وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون».
السيد "عبد الحميد الفرّا" مؤذن الجامع، قال:«تستقبل الأمّة الإسلامية "رمضان" باليمن والبركة، كونه ينشر التآخي بين المسلمين، ويجمعهم في دعاء واحد، فهو آدب إلهي، مشتق من الجمال المحض، سمة تتحلى بها نفوس العلماء والأخيار والفضلاء المحمودين، وما تبقى من الناس عليهم أن يأخذوا منه العبرة والفضيلة والوداد والتوائم.
ومن الطقوس الرمضانية الجارية في المساجد الإنشاد الديني والمولوية، التقليد المأخوذ عن العالم "جلال الدين الرومي" منذ800 عام..عن ذلك قال"محمد الخراط" منشد وعازف في فرقة "زهير الخراط" للإنشاد الديني:«الإنشاد والمولوية طقس صوفي يقام في "رمضان" للتوحد مع "الله"، وهو يمنح النفس متعة الصفاءّ والمشاهدة، والتجرّد من قيود الأخطاء والسمو في عوالم المثل والقيم».