الصورة في الشرق العربي بين الاستشراق والتوثيق
كمال شاهين
قضى المشرق العربي بعد أن عاث فيه المغول لزمن طويل، قروناً أربعة أخرى في ظل الاحتلال العثماني، وانقطعت علاقته بالعالم إلا عبر البوابة العثمانية إياها، وكاد العرب أن يخرجوا من التاريخ، لولا أن أيقظتهم مدافع نابليون الثالث من غفوتهم الثقيلة، فاستفاقوا ولو متأخرين.
عبر هذه الحقبة الطويلة اقتصرت علاقة الغرب (الناهض من سبات تاريخي طويل استمر عشرات القرون)، مع الشرق على الرحلات الاستكشافية والتبشيرية كمقدمة لا بد منها لما سيأتي لاحقاً من استعمار بدعاوى كثيرة، وبفضل هذه الرحلات نشأ علم "الاستشراق" كعلم يدّعي تقديم صورة "موضوعية" للشرق عموماً كما سمي، والشرق العربي خصوصاً، ورغم العلاقة الملتبسة حضارياً بين الحاضنة العربية وأوروبا بصفتها وريثاً لمنجز المشرق، فإن هذا الاستشراق لم يقدم سوى "الرؤية الغربية" للمشرق بعين "المتفوق" زمناً ممتداً إلى أول الخليقة إلا نادراً.
ظهرت كلمة "الاستشراق" أول مرة كما يرى المستشرق "آربري" Arberry في كتابه "المستشرقون البريطانيون" منذ سنة 1683 وكانت تعني (أحد أعضاء الكنيسة الشرقية أو اليونانية)، وفي سنة 1691 استخدمها "أنتوني وود" في كلامه عن "صموئيل كلارك" بأنه (استشراقي نابه) يعني بذلك أنه عرف بعض اللغات الشرقية. ويقول المستشرق الألماني رودي باريت (R.paret) في كتابه "الدراسات العربية والإسلامية": "بأن الاستشراق علم يختص بفقه اللغة خاصة، وكلمة استشراق مشتقة من كلمة (شرق) وكلمة شرق تعني مشرق الشمس. وعلى هذا يكون الاستشراق هو علم الشرق أو علم العالم الشرقي، ومن ثم أخذت تدل الكلمة على الاهتمام بما يحتويه الشرق من علوم ومعارف وسمات حضارية متنوعة.([1])
في فلسفة الاستشراق ومدارسه الكثيرة جداً، يظهر الشرق "بصورة مرآة عكسية للآخر"، أي الغرب بصورته المتفوقة، بتعبير الراحل "إدوارد سعيد"، وتصوير الشرق بهذه الصورة الأحادية، يقود حتماً "لصورة أحادية نمطية، يصنف بها الشرق متخلفاًوغيرقابلللتغييروغيرعقلانيومهددويجبالسيطرةعليه"[2].
تتفق هذه الصورة مع المخيال الغربي في صورته التي بنى عليها قوام علاقته بالعالم، فخلق لها جذوراً تاريخية يونانية وإغريقية "تلغي" ما قبلها من تاريخ وحضارة، فباتت الحضارة اليونانية وفلاسفتها معلمي الإنسانية الذين انبثقوا من هيولى العدم الرباني، غير غافلين ـ نحن ـ أن هذه الصورة بنيت على مداميك فكرية وثقافية اشتُغل عليها لقرون من الزمن عبر تعبئة هذه الصورة بمفردات بصرية تؤكد ما ذهبوا إليه، وعلى رأس هذه المفردات اعتماد "الصورة" ـ الفوتوغراف ـ مرجعية في الصورة المقدمة للآخر المشرقي تحديداً.
لم تبدأ الصورة الفوتوغرافية بالحضور في سجلات الاستشراق من اللحظة التي اخترعت فيها آلة التصوير على يد "لويس داجير" عام 1837، فقد سبقها رسامون أولعوا برسم المشرق، خاصة نساؤه، منذ القرن السابع عشر وبداية النهضة الأوربية الحديثة، فرسموا طبيعة الشرق وآثاره وطرقاته وشعوبه بتوثيق حقيقي استمر حتى ظهور التصوير والكاميرا كما سبقت الإشارة، فلا يفصل بين اختراع الكاميرا وظهور أول صورة "للاذقية" مثلاً إلا عقدين تقريباً.
في رسوم الاستشراق تلك، والتي تملأ المتاحف العالمية اليوم، تقدمت صورة نمطية أعيد مراراً إنتاجها لاحقاً في الميديا الحديثة بطرق ملتوية وأخرى واضحة، فالمكان يتم توثيقه بشكل دقيق، تؤخذ اللقطة في ثبات الزمان والإنسان أحياناً، ويبنى عليها التصدير الكلامي المناسب المتلائم مع "الصورة" في ذهن الرسام المشبع كثيراً بروايات "التوراة" و"روايات الحروب الصليبية" و"التوركي" و"المرأة الشرقية الغانية" في روايات "فلوبير" وغيرها (يجمع كثير من هذه الدراسات كتاب قيم للإنكليزية دوروثي ميتليتسكي بعنوان "موضوع بلاد العرب في إنجلترا في العصور الوسطى").
على أن هذه الرؤية الاستشراقية المعتمدة على حمل "الصليب" بيد، والكاميرا بيد أخرى، كانت بالنسبة للشرق العربي المنقذ الوحيد لتسجيل لحظات الزمن المنقطعة تلك عن البشرية، وشكلت لاحقاً مراجعاً بصرية ساهت في تقديم صورة للمدن العربية الكبرى في محنتها العثمانية، وفي خمول أهلها وحكامها وانقطاعها عن الحياة، وعما يجري في الغرب من حراك ينفض به الغبار عن نفسه.
من أوائل المصورين الفرنسيين الذين وطأوا أرض المشرق العربي المصور الفرنسي "لويس دي كليرك"، يقول في تبرير رحلته إلى الشرق وهو شاب لم يتجاوز الثالثة والعشرين من العمر: "في آب 1859، دُعيت لمرافقة المؤرخ الشاب "إيمانويل-غيوم ري" في الحملة التي ترعاها الحكومة إلى القلاع الصليبية في سوريا وآسيا الصغرى، وذلك بنية المساهمة المحتملة للتصوير في عمليات التنقيب الأثري هناك، كما تبين من مشروع "أوغست سالزمان" في وقت سابق" ([3]).
وصلت أول بعثة غربية إلى المشرق العربي (إلى مصر تحديداً) عام 1839 مزودةً برسامين لرسم الآثار المصرية، وعلى رأسها الرسام التاريخي (هوراش فيرنيت) (1789-1841)، كما أن بعثة "سالزمان" المذكور في مذكرات "دي كليرك"، وصلت عام 1854 إلى الأراضي المقدسة لتصوير الطرقات التي مشى عليها السيد المسيح في طريقه إلى الصليب، وصور هذه الرحلة موثقة في المتحف البريطاني حالياً، والملاحظ أن هذه الرحلات بدأت كالعادة من "فرنسا" و"بريطانيا" البلدان الأكثر استعماراً للعالم العربي مشرقه ومغربه، وهذا الأمر متوقع من الإمبراطوريتين الأعظم في تاريخ القرن الثامن عشر في أوروبا، كما لا نعدم وجود بعثات ألمانية في بقاع أخرى في العالم العربي، خاصة العراق، وهناك فضل كبير للبعثات الألمانية في توثيق "العراق" وآثاره ([4]).
ماذا صور "دي كليرك" في "سورية":
بدأ "دي كليرك" توثيقه لرحلته إلى "سورية" من ميناء "طرابلس" (لبنان حالياً)، الذي وصله مع صديقه "ري"، بعد أن تلقى دعوة من قريبة له لمرافقة الأخير ضمن طاقم عمل كامل، فطرابلس بقيت إمارة صليبية لأكثر من مئة عام (1109-1289)، وبنيت في مرفأها تحصينات وثقها "كليرك"، منها السلسلة المعدنية لإقفال المرفأ، مصوراً الصورة البانورامية الأولى لميناء "طرابلس" شبه الميت، كما أنه صور بعض الأحياء الشعبية في المدينة، ومنها بعض الأفراد يشربون "النرجيلة".
جال "كليرك" في سورية بحثاً عن القلاع الصليبية، فلم يتعد في رحلاته إلى الداخل السوري الحالي، فكل القلاع تقع على الشرط الساحلي، فمن "طرابلس" إلى قلعة "الحصن"، التي اهتمت بها البعثة أيما اهتمام، فقد حكمها شخص يمت بصلة قرابة إلى مصورنا "دي كليرك"، فقضت فيها البعثة وقتاً معلوماً في شتاء 1860، كما يتضح ذلك من الصور التي نشرت في مجلدات رحلة البعثة، وهي ستة مجلدات ضمن أكثر من 222 لوحة توثيقية لكل المناطق التي زارتها البعثة.
من قلعة الحصن إلى قلعة "المرقب"، وهي كذلك إحدى القلاع التي استخدمها الصليبيون، ثم إلى "جبلة" حيث صور المدرج الروماني الصورة الوحيدة المتوافرة له في تلك الفترة كما نعلم، إلى "اللاذقية" حيث خصها بعدد من الصور تجاوز الثلاثين صورة طبعت وانتشرت ووزعت كبطاقات بريدية، وفقد "النيجاتف " الأصلي لها في حين بقي الأصل المطبوع فقط في مجلدات الرحلة المحفوظة حالياً في متحف "اللوفر".
في أيلول 1860 وصل إلى "القدس" مع "ري"، ولم يلبث أن تركه وتابع إلى بقية "فلسطين ومصر" فإسبانيا بحراً، ليعود رحلته الثانية إلى المشرق العربي في 1862-1863، وهي رحلة وثق فيها أيضاً مناطقاً أخرى في "سورية" وليقوم عبر المفوض التجاري الفرنسي في "بيروت" بشراء الآثار من المنطقة ونقلها إلى "فرنسا" فادخل إلى اللوفر أكثر من600 قطعة من أفضل القطع الأثرية التي تعود لعصور المسيحية الباكرة في "سورية"، وبقي "كليرك" جوالاً بين الشرق وبلده يقوم بشراء القطع الأثرية حتى وفاته عام 1901.
في صور "كليرك" للاذقية تظهر خبرته البسيطة عموماً في الصورة، فهو تعلم التصوير في نفس العام الذي وفد فيه إلى المشرق، على أن هذا لا يلغي أبداً تمكنه من إدارة الكاميرا خاصته بشيء من الحرفية التي تتجلي في النقطة التي يصور منها الموقع، ففي الصورة البانورامية الأولى للاذقية، جميع العديد من الأحياء في صورة واحدة التقطها من على سطح ما كان يعرف باسم "دير الموارنة" مقابل جامع "البازار"، ويظهر منها القسم الأكبر من المدينة الصغيرة وقتها والتي لم يتجاوز عدد سكانها الألاف حتى مطلع القرن العشرين (من حوار مع المصور "منير كباس" مؤلف كتاب عن تاريخ التصوير في اللاذقية يصدر قريباً).
بعد "كليرك" وصل إلى اللاذقية العديد من المصورين، أشهرهم المصور الفيتنامي "هوان" الذي كان في الجيش الفرنسي وبقي في المدينة وصورها حتى منتصف الأربعينيات قبل رحيله إلى بيروت ووفاته هناك مطلع عام 1951.
لا شك أن ما قدمه "دي كليرك"، بقصد أو بدونه، يشكل وثيقة عالية الأهمية في تاريخ مدينة افتقدت إلى التوثيق البصري خلال حقب كثيرة من تاريخها، والصور القليلة التي تركها الرجل، على الأقل بالنسبة لنا، تساعد في الإضاءة على حياة السكان والمدينة والجغرافيا والعلاقات مع العالم في تلك المرحلة، وإننا مدينون للاستشراق بهذه الذاكرة الطيبة عن المدينة.
المصادر والمراجع:
1- صورة العرب في مرآة الاستشراق الألماني، د. تركي المغيض، مجلة الكويت، العدد 270، نيسان 2006.
2- الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق، إدوارد سعيد، ترجمة د. محمد عناني، رؤية للنشر،2008، القاهرة.
3- Louis DeClerq’s Stations of the Cross, Marjorie Munsterberg
[1]صورة العرب في مرآة الاستشراق الألماني، د. تركي المغيض، مجلة الكويت، العدد 270، نيسان 2006.
[2]الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق، إدوارد سعيد، ترجمة د. محمد عناني، رؤية للنشر،2008، القاهرة. من مقدمة المترجم. علماً أن هناك ترجمة ثانية للكتاب للدكتور "كمال أبو ديب" سبقت هذه الترجمة، وكلاهما من الترجمات المميزة للكتاب.
[3]موقع الجمعية الوطنية الفرنسية للمصورين.
[4]صورة العرب في مرآة الاستشراق الألماني، مصدر سابق.