الفسيفساء ولدت في الساحل السوري ونقلها الرومان إلى العالم
علاء الجمّال
وسط أجواء ممتزجة بالصمت وصوفية الفكر والخيال، في رائعة من روائع الجمال وبدائع التصميم الفني في واحات الفسيفساء والخيال المنطلق، يطل علينا الفنان التشكيلي السوري عبد المنعم بركات عبر أطياف ذاكرة ممتدة بعيداً بين معابر التاريخ والأساطير والتراث والإرث الحضاري، يرسم لنا كينونته الخاصة الحالمة والمـتأملة بفن الفسيفساء, يجمعها عبر أحجار رخامية مستقدمة من أماكن مختلفة، يقطعها إلى أحجام صغيرة متفاوتة في الشكل وكثافة السطح «نعومته وخشونته»، تعرّقها تضاريس متداخلة، وعروق نباتية لعبت أنامل الطبيعة دورها في تكوينها ونحتها، يَصفُّها قطعاً متراصة بانسجام بعضها إلى جانب بعض، وسوية تتعشق فيها حبات الحجر المتلاصقة بوضوح في معالم الرؤية والأبعاد بنداءاته المغناة، التي يطلقها إيقاعات متزنة بديعة الزخرفة واللون، خارجة من عمق تاريخ طويل لمدينة عرفت بتنوع علومها و ثقافتها، سميت معرة النعمان، وذلك نسبة إلى فيلسوفها أبو العلاء المعري.
نشئ بركات ضمن هذه المدينة، وراح يتعمق في معالمها الأثرية، ناهلاً تراثه الجمالي بما تهيئ له من أساطير شخوصها ورواياتها وأحداثها، تأثر بهم وغذى بعوالمهم فيضه المعرفي، ليحوله إلى معبد خاص يمارس فيه تراتيله الدينية التصوفية من خلال تقطيع وصف الحجر الرخامي و البازلتي, الذي ينتقيه بعناية، ويتعامل معه بدراية فلا يلبث مدة من الزمن حتى يغدو بين يديه لوحة فنية يهيم في مقاماتها النظر وترقص في تعابيرها الروح.
نفحات تشكيلية
ورداً منه على الظروف القاهرة التي أحكمت الخناق عليه، خرج من عالمه المثالي إلى دمشق محملاً بالأمل، ليعمل عبر فنه ضمن معامل الحجر الرخامي، لينتقل بعد ذلك إلى العمل في بيروت معتمداً على حريته الإبداعية والمعرفية, فعرض عليه الكثيرون الشراكات، لكنه رفض وأصرّ على وحدته و احتفاظه بموهبته خالصة له، ولنفسه فقط حق التصرف بنفحاتها التشكيلية، مما زاد عليه الأمر صعوبة، فقرر عندها العودة إلى سورية والبدء من جديد، ليلتقي وسطها بالفنان التشكيلي السوري محمد الملحم حيث عملا معاً، وأنشئا معرضاً فنياً دائماً يجمع أعمالهما الفسيفسائية في دمشق القديمة وتحديداً بين أحضان القيمرية.
حول نشأة هذا الفن والتواصل الرفيع في إنجازه يقول عبد المنعم : «تعود الفسيفساء في أصلها إلى الساحل السوري منذ بداية الحضارة السومرية، التي امتدت إلى شمال كيليكيا ثم إلى الجنوب أسفل فلسطين»، مضيفاً أنه عندما قدم الرومان إلى الساحل السوري نقلوا معهم الخبرة السومرية إلى مدن اليونان و روما لكن بأيدي عربية، ودلالة ذلك اللوحة ألجداريه الموجودة في متحف روما وباسم سومري وتعتبر من أكبر اللوحات الفنية في العالم تعقيداً وإنجازاً.
أنواع الحجر الرخامي
وحول طبيعة القطع الرخامية التي يعتمد عليها في مراحل العمل يشير عبد المنعم إلى أن الحجر الرخامي يختلف باختلاف المنطقة التي يستخرج منها،فهناك مثلاً المعدراني من جبال درعا، والمعراوي من جبال المعرة، والغواتيمالا الأسود والرمادي، والمزاوي ويعتبر أجودها وأفضلها كلون واستخدام, كما يوجد التركي والرحيباني والرنكوسي، والشحف الأردني، والبازلتي في السويداء. موضحاً طريقة العمل في اللوحة الفسيفسائية بأن القطعة الفنية الواحدة تحتاج إلى جهد مضني ودقة في تركيب حبات الرخام المقطعة في حدود 3 أو 7 أو 12 مم ضمن اللوحة، وتعتبر أكبر القطع المراد صفّها على الرسم المراد ترصيعه بهذه الباقات البصرية التي تمنح للسرد القصصي والأسطوري واقعية نموذجية مرتكنة إلى فيض ميثولوجي يوشي بروائع تلك اللوحات التعبيرية.
ينقسم العمل أثناء التركيب الفني للّوحة إلى نوعين «مسطح و كسر» مسطح أي يتم إلصاق الحبات و إبراز أسطحها الملساء الناعمة , و كسر أي إبراز أسطحها العرضية المتفاوتة في الأحجام و السماكات.
قدّم عبد المنعم بفنية عالية أعمالاً فسيفسائية غنية في الطرح والفكر والتذوق البصري للطبيعة والجمال، بعضها استغرق انجازه 40 يوماً، وبعضها الأخر قرابة السنة، يذكر منها شجرة الحياة والطائر الحر وإله الشجاعة, وعائلة المسيح , وباقة من زهور الربيع, والحادي «دليل الصحراء»
دمشق عراقة وتاريخ
وحول أبعاد الموضوع المتناول في اللوحة يقول محمد الملحم: «يستمد البعد من عمق التاريخ ويستوحا زمانه ومكانه في رسم الشخصيات وتركيب قطع الرخام عليها بطرق هندسية متقنة التصميم والتوثيق الجمالي». مشيراً إلى الاجتهاد والتأكيد والاجتهاد على انسجام وتوافق بعد السمع الحسي، والتأمل البصري، والمدى في الفراغ، حتى يتمتع موضوع اللوحة بروحانية الحركة و التفاعل مع تفاصيله فور رؤيته والانغماس بعوالمه.
ويرى الملحم أن العرب قديماً برعوا في علوم الطب و الهندسة و التداوي بالأعشاب وفنون الزخرفة والعمارة والرسم والترصيع الفسيفسائي. مشيراً إلى أن واجهة الجامع الأموي الداخلية بفسيفسائها النباتية والإلهية المرصعة بأجمل ما وجد من ألوان الطبيعة ومقامها الكريم، تمثل الأبعاد الروحية والفكرية التي ذكر.